إن المتابع لشؤون وحدة الأمة يهوله ما يراه من تصدعها في القرن الماضي والحالي، ويهوله ما يراه من حجم هذا التصدع وسرعته، فهناك انشطار الأمة إلى قسمين متعاديين بعد التصادم التركي العربي الذي وقع بعد الحرب العالمية الأولى، وهناك تحرك الأكراد الانفصالي في كل من العراق وتركيا وسوريا وإيران، وهناك تحرك الأمازيغ في كل من الجزائر والمغرب، وهناك تحرك العرق الأسود للانفصال في جنوب السودان …. إلخ، مع أن هذه الأمة حافظت على وحدتها لأكثر من ألف سنة مضت. فما العوامل التي ساعدت على وحدة الأمة قديما؟ وما العوامل التي أدت إلى تصدع هذه الوحدة حديثا؟
لم يعرف العرب وجود الأمة قبل مجيء الإسلام وقبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فهو الذي أنشأ أمة واحدة من القبائل المتنافرة، واللهجات المختلفة تحت راية واحدة ولسان واحد هو لسان قريش، وهناك علامة فارقة في صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي أن الله وصفه بـ”الأمي” في آيتين اثنتين هما:
قال تعالى ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـٰهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ (الأعراف-١٥٧ و١٥٨).
ذهب بعض المفسرين إلى أن وصف (الأمي) الذي وصف به النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- في الآيتين السابقتين، بمعنى أنه يجهل القراءة والكتابة نسبة إلى (الأم). وذهب بعضهم الآخر إلى أن وصف (الأمي) نسبة إلى (الأمة) بمعنى أنه النبي الذي يبني وينشئ أمة على غير عادة الأنبياء السابقين، والذي ينتسب إلى أمة، والذي تنتسب إليه أمة جديدة، وهي علامة فارقة بين سيرته (صلى الله عليه وسلم) وسيرة الأنبياء والرسل السابقين، والمفسرون الذين أخذوا بهذا التفسير قليلون، ومنهم: ابن تيمية، والمفسرون الذين أخذوا بالتفسير الأول كثيرون ومنهم: القرطبي وابن كثير.
إن هذا الوصف القرآني لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة كان له انعكاسه في سيرته، وفي تحقيق هذا الأمر، لذلك أعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- انتباهه واهتمامه لموضوع الأمة وإنشائها ورعايتها منذ اللحظة الأولى التي دعا فيها إلى التوحيد في مكة، وأقامها على عاملين:
الأول: عامل الوحدة الثقافية
وقد انبثقت الوحدة الثقافية من القرآن والسنة اللذين دعوا إلى توحيد الله وعبادته، وإلى تحرير الإنسان من عبادة الأشخاص والأوثان والأنداد، واعتبرا الشرك ارتكاسا وانتكاسا لإنسانية الإنسان لأنه خضوع لما هو دون، ودعوا إلى احترام العقل وتفعيله، وإلى التفكير في السنن المحيطة، وإلى بنائه على سبر أغوار عالم الشهادة، وعلى التجريب المنبثق من عالم الحس.
وأكدا على احترام جسد الإنسان وشهواته، واعتبرا الرهبنة منافية للفطرة، واعتبرا قضاء الشهوات عبادة يؤجر عليه المسلم ودل على ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- “إن في بضع أحدكم أجرا”، فاستغرب الصحابة وسألوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- “أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر” فقال الرسول: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر”، واعتبرا إعمار الدنيا واجبا على المسلم وعليه أن ينتهز جميع الفرص لتحقيقه ولو كانت الساعة في نطاق الوقوع فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها فإن له بها أجرا”، وبنيا القلب على تعظيم الله وليس على الشهوات، وعلى الخوف من مقام الله وليس من الطواغيت، ورجاء الجنة وليس ما في يد العباد من متاع، كما بنيا الأخلاق على الإيثار والتضحية ونفع الآخرين والصدق والأمانة… إلخ.
الثاني: عامل وحدة القبائل والشعوب
لقد أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة على وحدة كل الأعراق والأجناس والقبائل والشعوب والعشائر تحقيقاً لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات-13) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم “الناس سواسية كأسنان المشط، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.
وبالفعل تحققت عالمية اندماج الأجناس والشعوب والأعراق والقبائل لأول مرة في تاريخ البشرية، وهو ما تطلع إليه كثير من الفلاسفة والمصلحين والقيادات والدول، لكنهم فشلوا في تحقيقه ويمكن أن نمثل على ذلك بالفيلسوف أرسطو وتلميذه الإسكندر المقدوني، الذي حاول إيجاد ثقافة موحدة من خلال المدن الثقافية التي أنشأها في كل البلدان التي يفتحها ومن ذلك مدينتا (الإسكندرون) في سوريا، و(الإسكندرية) في مصر، وحاول -أيضا- أن يمزج بين العرقين الفارسي واليوناني من خلال حفل الزواج الضخم الذي أقامه في بابل وتزوج فيه بابنة كسرى أنوشروان وزوج ضباطه الكبار بكريمات أعيان الفرس، لكن العالمية لم تتحقق لدولته من بعده، وفشل مشروعه في تحقيق العالمية، واتضح ذلك من الانقسامات التي وقعت بعده بين قادته، وانطفاء شعلة دولته بعد فترة بسيطة.
وتتأكد عالمية الأمة الإسلامية من وجود أعلام وأعيان وقيادات في أعلى المراتب في كل المجالات العسكرية والسياسية والعلمية والثقافية والإدارية… إلخ، فنجد أن شخصيات عربية وتركية وفارسية وشركسية ومغولية وأوروبية … احتلت أعلى المناصب في قيادات الجيوش، وقس على ذلك بقية الفروع السياسية والعلمية والثقافية…، حتى الخلافة أخذها الأتراك لمدة أربعة قرون، وقبلهم المماليك كانوا قادة العالم الإسلامي لمدة قرنين أيضا.
إن وجود الأمة الإسلامية من أضخم الحقائق التي أرساها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أرض الواقع إلى جانب القرآن الكريم وإلى جانب الدولة التي أقامها في المدينة المنورة، ومع أنه قامت عشرات الدول السياسية في القرون الماضية من مثل دولة البويهيين والسلجوقيين والحمدانيين والطولونيين والطاهريين والمرابطين والموحدين والأدارسة والزنكيين والأيوبيين إلخ..، وتصارعت هذه الدول بعضها مع بعض، لكن الأمة بقيت موحدة، وذلك بفضل انتباه علماء الأمة وفقهائها إلى عنصري الوحدة وهما: عنصر وحدة الثقافة، وعنصر وحدة الشعوب، ليس مجرد الانتباه لهما، لكن الاستمرار في تغذيتهما وتدعيمهما، والذود عن كل ما يمكن أن يصدعهما، وقد أصدروا فقها خاصا في هذا الموضوع نتيجة وعيهم لأهمية وحدة الأمة في استمرار وجودها وفاعليته، ويمكن أن يجده الباحث في كتب الأحكام السلطانية وفي كتب السياسة الشرعية.
لكننا نرى -الآن- أن هذه الأمة التي استمرت موحدة لمدة طويلة، بدأت تتصدع وتتمزق وتتصارع فيها القوميات والأعراق والشعوب -كما أوضحت في مطلع المقال- فما السبب في ذلك؟ السبب في ذلك هو الفكر القومي الذي أكمل ما بدأه الاستعمار من فرض النموذج الحضاري الغربي، والذي أدى إلى تدمير عاملي وحدة الأمة، ولم يحسن التعامل معهما، ويمكن أن نوضح ذلك في كل من دولتي العراق ومصر كنموذج على هذا التعامل.
أصبح العراق نموذجا للدولة القومية على يد الملك فيصل عام 1921، وساعده في ذلك ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي، وأبرز منظر له على الإطلاق خلال القرن الماضي، ثم استمر الفكر القومي العربي يحكم العراق على يد ميشيل عفلق وحزب البعث العربي الاشتراكي في ستينيات القرن العشرين، ومع كل التأكيدات على المضمون الثقافي للقومية العربية إلا أن (حملة الأنفال) التي قام بها حزب البعث العربي الاشتراكي لتطويع الشمال الكردي، مارست القتل والتدمير بشكل وحشي غير مقبول، ثم أكملها صدام حسين بإلقاء الكيماوي على قرية حلبجة الكردية عام 1988، كل ذلك أدى إلى تدمير أحد عاملي قيام هذه الأمة وهو مكون أخوة الأجناس.
وقد يلقي بعض الدارسين المسؤولية في هذا التصدع على الاستعمار وإسرائيل، وهذا أكيد وصحيح، لكن فعل القيادات القومية العربية هو الذي أعطى الفرصة للتدخل الاستعماري والإسرائيلي.
أما على المستوى الثقافي بعد الحرب العالمية فإن الفكر القومي العربي الذي ساد العراق, والفكر القومي المصري الذي ساد مصر كانا فقيرين ثقافيا, لأن الأول اعتبر أن اللغة والتاريخ مقوما الأمة العربية, واعتبر الثاني التاريخ والمكان هما مقوما الأمة المصرية، لكن هذا الاعتبار غير صحيح، ولا يمكن أن يفسر وجود الأمة، وهو فقير ثقافيا.
وهما أرادا أن يسدا فقرهما الثقافي فاستجلبا النموذج الغربي, وانزلقت الأمة نحو خطر التغريب لذلك نقلا كل مواقف الحضارة الغربية، من شؤون الدين والفكر والاقتصاد والاجتماع… إلخ، ومما نقلاه أن الدين شأن شخصي لا علاقة له بالأمور العامة, وأن علينا أن نعزله في المسجد كما عزلت أوروبا الدين في الكنيسة، وأن الدين والعلم متناقضان، وعلينا أن نرسخ العلم ونطرد الدين، وأن العالم المحسوس المادي هو العالم الحقيقي، وعلينا أن نعزل رجال الدين لأنهم يروجون الأوهام والخرافات… إلخ.
ويمكن أن نجد عشرات الشواهد على المقولات السابقة من كتابات ساطع الحصري وطه حسين وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد.. إلخ، ولا شك أن المقولات التي نقلها الفكر القومي تنطبق على المجتمع الغربي ولا تنطبق على مجتمعنا، فلم يحدث تصادم بين الدين والعلم في تاريخنا، وليس هناك طبقة رجال دين في حياتنا بل هناك علماء.
أما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما اقترن الفكر القومي بالاشتراكية, فأصبحت المقولات التغريبية المعادية للدين أكثر حدة, وأصبحت تطرح شعارات استئصال الدين من حياة الناس لأنه أصل التأخر والانحطاط، ولأنه أفيون الشعوب، وأصبحت تطرح شعارات السحق والقتل للمتدينين والرجعيين الذين يقفون في وجه التقدم ويستغلون الفقراء، ولا شك أن تلك المقولات لا تنطبق على أمتنا، لأن ديننا لم يكن مخدرا بل كان عنصر تحرير لعقل الإنسان وقلبه، ويدل على ذلك مساهمة بسطاء المسلمين في كل الثورات التحررية، فهم كانوا مادة كل الثورات التي أنقذت العالم العربي من الاستعمار.
إن المقولات التغريبية التي انتشرت بعد الحربين العالميتين ساهمت في تدمير جانب من العامل الثقافي الذي يوحد الأمة، وأدت إلى ضياع في حياة الأفراد، وأدت إلى تحولهم إلى فضاء القبيلة والطائفة والجهة من أجل المحافظة على الذات.
الخلاصة: ليس من شك بأن الاستعمار هو الذي بدأ تغريب الأمة عندما استعمر معظم البلدان العربية في القرن التاسع عشر والعشرين، وقام بفرض نموذجه الحضاري، واتبع كل الأساليب من أجل ترسيخ ذلك، لكن الذي اجتهد في إكمال المهمة هو الفكر القومي في صورتيه: الرأسمالية والاشتراكية وبعد الحربين العالميتين، لكنه لم ينجح في ترسيخ النموذج الحضاري الغربي، وإنما أفلح في تدمير عاملي وحدة الأمة: وحدة الأجناس والشعوب، والوحدة الثقافية، فكان التصدع الذي نراه الآن.