لعب الدكتور حسن الترابي دورا قياديا في مجال العمل الإسلامي منذ ستينات القرن الماضي، و بنت الحركة الاسلامية آمالا عليه و على دوره في السودان و بخاصة بعد أن استطاع ان يستلم حكمه هو و مجموعته التنظيمية التي بناها خلال ثلاثين عاما، لكن تلك الآمال قد تبخرت بعد الصراع الذي و قع بينه و بين عمرالبشير، و قد اصبحت تجربة الانقاذ في السودان حسرة في قلوب الدعاة لأنها تجربة لم تنجح لتبني عليها الأمة كأختها تجربة حكم طالبان في افغانستان، فأين يكمن الخلل؟ يكمن الخلل في عدة مجالات، و أبرزها الفكر، و طالما أننا في صدد الحديث عن تجربة السودان، فالترابي كأفكار، و الترابي كشخص هو أحدالمسؤولين عن مآل الفشل الذي انتهت إليه تجربة السودان، و الموضوع يحتاج إلى دراسات متعددة و مستفيضة، و ها نحن نقدم هذا المقال بين يدي مثل هذا البحث تحت عنوان “تفنيد بعض أخطاء الترابي”
ألقى الترابي محاضرة في 22/4/2006 تحت عنوان “تجديد الفكر الديني” ورافق ذلك تصريحات متعدّدة مثيرة في الصحافة وأجهزة الإعلام حول موضوعات متعدّدة مثل إمامة المرأة للرجال في الصلاة، والحجاب وعذاب القبر والساعة والمهدي وحديث الذبابة إلخ…، وللحق فإنّ كثيراً مما قاله الترابي الآن -تحدّث عنه سابقاً- خلال الربع الأخير من القرن العشرين، ومن ذلك مناداته بتجديد أصول الفقه، وعلم الحديث، وعلم الكلام إلخ…، وللحق أيضاً فقد كانت في النفس أشياء حول بعض أقوال الترابي في كل مراحل تصريحاته، ولكنني كنت أُسكتها وأٌقنعها بأنّ الرجل نجح في إقامة نواة دولة إسلامية في حين لم ينجح غيره، وكانت هذه الدولة حلم الأمّة بشكل عام وحلم الجماعات والأحزاب والهيئات والعلماء بعد الحرب العالمية الأولى بشكل خاص، فلنعطه فرصته الكافية من جهة، وكانت تأتينا الأخبار بأنّ هناك أناساً حوله يناقشونه في هذه الفتاوى الشاذة وأنهم سيعيدونه إلى الصواب من جهة ثانية، هذه بعض العوامل التي كانت تجعلني أسكت، والأرجح أنها كانت تجعل غيري يسكت عن هذه الفتاوي والآراء والاجتهادات والأفكار الشاذة.
والآن بعد أن انتهى أمر السودان إلى أسوأ مما كان عليه قبل حكم جبهة الإنقاذ 1989 من التشرذم والانقسام وسيطرة القوى الغربية عليه، وبدلاً من أن يكون حكم جبهة الإنقاذ رافعة للعمل الإسلامي، ونموذجاً يُحتذى أصبح عبئاً ومثلاً سيئاً، وكنت أتوقّع من الترابي أن ينـزوي في إحدى الزوايا ويستغفر الله على تلك الزلات التي أوصلت السودان إلى ما هو عليه الآن، نراه يعود إلى الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي، وإني إذ أستغرب هذا الحديث بعد أن أثبت الواقع في تجربة السودان الماثلة أننا لسنا أمام تجديد بل أمام إفساد وتهديم، وكان الأولى به أن يكتب لنا عن أسباب فشل تجربة الحكم في السودان، وما العوامل التي وقفت وراء هذا الفشل، وأن يفصّل في ذلك ليستفيد من كلامه العاملون في الحقل الإسلامي. والسؤال الآن: لماذا عاد إلى الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي؟ لماذا عاد إلى تكرار آرائه وفتاويه الشاذة في مختلف المجالات الإسلامية؟ وهل الإسلام هو “الحيطة الهابطة” التي يستطيع الترابي أن يجترئ عليها؟؟
لكن ليعلم الترابي من الآن فصاعداً أنّ الإسلام ليس “الحيطة الهابطة” كما يتوهّم، ولن يكون الاجتراء عليه سهلاً من الآن فصاعداً، لأنّ الكثير من الكتّاب والأقلام ستتصدّى له الآن بشكل أكبر مما يتوقّع، وستفضح دعاويه، لأنّ المبرّرات التي كانت تحول دون كتابتهم وردودهم على آرائه الشاذّة قد انتهت الآن.
سأشير الآن إلى ثلاثة أخطاء في هذا المقال، وردت في محاضرته الأخيرة عن “تجديد الفكر الديني”، وفي مقابلتين صحفيتين مع “الشرق الأوسط” ومع مجلّة “المجلّة” الصادرتين في لندن.
الأول: إشارته إلى أنّ سبب الاختلاف مع الرئيس السوداني عمر البشير ومع نائبه علي عثمان طه يعود إلى “ظمأ السلطة عندهما، فكلما مُنحا صلاحيات تطلّعا إلى المزيد منها”، وفي هذا تزكية لنفسه واتهام لغيره، ويجب أن لا يكون هذا منه، إلى جانب التساؤل: ما الذي يمنع أن يكون ظمأ السلطة عنده والتطلع إليها هو الذي أفسد العلاقة مع تلميذيه ومريديه البشير وطه؟ وبخاصة أنّ إشارات وردت من بعض المتابعين للشأن السوداني وأبرزهم محمد أبو القاسم حاج حمد والذي قال: “إنّ الترابي كان يحلم بأن يكون رئيساً لجمهورية السودان وأن يكون صادق المهدي رئيساً للوزراء عنده”.
والآن: لنضع الأمر في صورة أخرى، ولنفترض أنّ كلام الترابي صحيح في أنّ لدى تلميذيه البشير وطه الظمأ للسلطة، فلماذا لا يترك ذلك لهما طالما أنهما ليس لديهم انحرافات عقائدية وشرعية ومنهجية ودينية، وليدفع المفسدة الأكبر وهي ضياع السودان بمفسدة أصغر وهي تحقيق شهوة السلطة عندهما.
الثاني: وصف الترابي نفسه في أحد تصريحاته الصحفية فقال: “إنه ليس سُنّياً ولا شيعياً بل هو مسلم فقط”. هل هذا الكلام بناء أم تهديم؟ وما المضار والمفاسد والأخطار التي تترتّب على القول بأنه سُنّي؟ وبالمقابل ما الفوائد والمكاسب والإصلاح الذي ينتج ويترتّب على أنه ليس سُنّياً؟ وهل هذه بداية التجديد في الفكر الديني؟
ليس من شكّ بأنّ قول الترابي “إنه ليس سُنّياً ولا شيعياً” قول هدّام، ويضعه في دائرة الاتهام، ويضعه كذلك في دائرة الابتداع، لأنّ معنى قوله “لست سُنّياً” التنكّر لكل كتب السنّة التي جمعت أقوال الرسول r وأفعاله وتقريراته، هذه الكتب التي وجّهنا إليها القرآن الكريم، كما قال الشافعي في الحوار الذي أجراه حول حُجّية السُنّة بأنّ القرآن وجّهنا إلى طاعة الرسول r، لذلك فإنّ التزام السُنّة واتباع الرسول هو بأمر الله والقرآن، وليس اجتهاداً من عندنا.
الثالث: اتهم الترابي الأمّة بالتخلّف، ووصف المجتمع الإسلامي أكثر من مرّة بأنه “مجتمع متخلّف”، لكنّ هذا الكلام غير صحيح، لأنّ الأمّة مع كل الأمراض التي أصابتها، تمتلك حيويّة واضحة أفشلت كل مخطّطات التغريب التي وقعت خلال القرن الماضي، بقصد استئصال الإسلام ومحوه من واقع حياة الناس، وقدّمت التضحيات التي لا تحصى بالمال والجهد والوقت والدم، ومَحَضَت دعاة الإسلام تأييدها ونصرتها، ولكن المتخلّف -في الحقيقة- هم القيادات أمثال الترابي الذين لم يحسنوا الاستفادة من حيوية الأمّة، ولم يحسنوا معالجة أمراضها، ولم يحسنوا استثمار جهود المسلمين وتحويلها إلى انتصارات حقيقية على الأرض.