تعاني ساحتنا الثقافية من مشكلات عديدة، إحداها: المصطلحات المترجمة من اللغات الغربية وآثارها في البناء الثقافي.
فمن المؤكد أن المصطلح الغربي جاء نتيجة ظروف تاريخية معينة، ويحمل دلالات خاصة مرتبطة ببيئة الغرب وثقافته.
وتأتي الخطورة عند إنزال هذا المصطلح المترجم على واقعنا وإنزال دلالاته على هذا الواقع الذي لا يحتمل تلك الدلالات.
لقد أدى الاحتكاك بالحضارة الغربية والتعامل معها منذ قرنين إلى نقل كثير من المصطلحات الغربية السياسية والدينية والعلمية والاجتماعية إلى تراثنا الفكري، وهو أمر طبيعي.
لكن هذا النقل أحدث بلبلة واضطرابا في فضائنا الثقافي والعملي في كثير من الأحيان، والسبب في ذلك هو نقل هذه المصطلحات الغربية إلى مناخنا الفكري بدلالاتها المختلفة دون مراجعة خصوصيتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية الخ….
ويمكن أن نمثل على ذلك بعدة مصطلحات منها مصطلح الطبقة البرجوازية التي تحدث عنها كارل ماركس في كتاب رأس المال، وهي طبقة جاءت بعد المرحلة الإقطاعية، وارتبطت بنشوئها الصناعات الحديثة كالآلة البخارية والآلات الكهربائية ومناجم الفحم الخ….
وجاء ثراء الطبقة البرجوازية من استغلال الطبقة العاملة، ومن سرقتها فائض قيمة العمل الذي تختزنه من أجور العمال.
والحقيقة إن تعريف كارل ماركس لهذه الطبقة جاء مرتبطا بالتاريخ الأوروبي بكل ما يحمله من تطورات وقد نُقل هذا المصطلح إلى فضائنا الاقتصادي، وأُنزل تماما على واقعنا مع كل وجود المباينات المسبقة، فليس هناك تطابق بين المرحلة الإقطاعية في أوروبا وفي منطقتنا.
وهذه الطبقة البرجوازية في منطقتنا غير مرتبطة بتراكم رأس مالي حقيقي، بل كانت تقوم بدور الوسيط بين الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي وبين السوق المحلي.
والأهم من ذلك أن نتائج ذلك النقل الحرفي لمصطلح الطبقة البرجوازية كان كارثيا في مرحلة التطبيق الاشتراكي في الستينات من القرن الماضي في كل من مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن الخ….
إذا استتبع هذا المصطلح ممارسة العنف الثوري نحو هذه الطبقة التي لا وجود حقيقيا لها، واستتبع تدميرها من أجل تحقيق مجتمع الكفاية والعدل.
واستتبع العزل السياسي لها من أجل حماية المجتمع من شرورها الخ…، إن كل تلك الإجراءات أعاقت النمو الاقتصادي لمنطقتنا، ودمرت الطبقة الوسطى.
ومرد ذلك كله لاستخدام المصطلحات الماركسية دون النظر إلى مدي خصوصية التطور الاقتصادي للمنطقة، مع أن كارل ماركس عندما درس الاقتصاد الآسيوي أفرز له حيزا خاصا، واعترف بخصوصية تطوره وتميزه عن الاقتصاد الأوروبي، وأفرز مصطلحا خاصا له سماه “النموذج الآسيوي”.
ومن هذه المصطلحات المنقولة أيضا مصطلح الانحطاط والنهضة. فقد عرف الغرب في قرونه الوسطى انحطاطاً نتيجة سيطرة الكنيسة على الأمور العلمية، ونتيجة اصطدام رجال الدين مع رجال العلم حول حقائق مثل دوران الأرض وثباتها، وحول مركز الكون أهو الأرض أم الشمس؟ الخ….
ثم جاءت مرحلة النهضة التي اعتمدت على العقل، وأطلقته من أسره، واستتبع ذلك اكتشافات واختراعات في مختلف المجالات العلمية والجغرافية والاقتصادية والصحية والعسكرية الخ….
ثم نُقل هذان المصطلحان إلى ثقافتنا الفكرية، وقد استتبع ذلك ضرورة تحقيب تاريخنا الحضاري بصورة مطابقة لما عند الغرب، وضرورة وجود مرحلة انحطاط حضاري ومرحلة تنوير عقلي، ثم مرحلة نهضة.
وقد اعتبر الناقلون لهذه المصطلحات أن العصر المملوكي والعثماني هي فترة الانحطاط، وأن فترة التحديث التي بدأها محمد على باشا في مصر هي بداية النهضة.
وعند التدقيق في هذا نجد أن مواصفات عصر الانحطاط عند الغرب لا تتطابق مع مواصفات العصر الذي أطلقوا عليه الانحطاط عندنا من حيث الانغلاق وموات العقل.
وقد فند ذلك الدكتور جورج صليبا في كتاب “الفكر العلمي العربي: نشأته وتطوره” الذي درس فيه علم الفلك في الفترة المسماة بـ “عصر الانحطاط”، فلم يجد انحطاطا، بل وجد إبداعا وإضافات واكتشافات وفاعلية فكرية تدل على حيوية العقل العربي ونشاطه في تلك المرحلة.
وندد بتسمية ذلك العصر “عصر الانحطاط” واعتبرها خاطئة، واعتبارها مسمى دون محتوى، وأشار إلى أن “كوبرنيكوس” نقل نظريته في مركزية الشمس للكون عن بعض العلماء الذين سبقوه في العالم العربي بفترة بسيطة.
ودعا إلى إعادة النظر في تسمية “عصر الانحطاط“، وفي التحقيب الشائع لتاريخنا من أنه يبدأ بعصر النشأة، ثم عصر الازدهار والقوة، ثم عصر الانحطاط لأنه مناف لحقائق تطورنا الحضاري.
أما فيما يتعلق بعصر النهضة فقد اعتبر الباحثون عصر محمد علي باشا في مصر بداية لهذه النهضة، وذلك لان محمد علي باشا ادخل كثيراً من التحديثات العصرية في مصر التي بدأت أثناء فترة حكمه عام 1805.
فأنشأ جيشا حديثا على الطراز الأوروبي، وأنشأ معامل لتصنيع بعض الآلات العسكرية، وجلب بعض المدربين الأوروبيين.
وعدَل في نظام الري المرتبط بنهر النيل، كما أنشأ بعض السدود من أجل توسيع رقعة الأرض المروية، كما جلب زراعة القطن.
وأسس مطبعة بولاق الشهيرة عام 1821 ولعبت دوراً أساسيا في نشر الكتب بالعربية والتركية والفارسية بالإضافة إلى الكتب المترجمة عن الفرنسية والإنجليزية إلخ…
لا شك إن هذه الإصلاحات أحدثت تغييرا في النواحي الاقتصادية والزراعية والاجتماعية والسياسية الخ…، لكنها لم تحدث نهضة، لأن النهضة تبدأ أولا من رؤية فكرية نحو الواقع الغربي والثقافي والديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تقبل بعض حقائقه وترفض بعضها الآخر، وتصوغه بالتالي حسب تفصيلات منهجية لتصبح الأمة أكثر عافية وأكثر انطلاقا، وهو ما لم يفعله محمد علي باشا في أية صورة من الصور.
وقد نقل كثيرا من التحديثات الغربية لكنه لم يفعل ذلك بناءً على رؤية منهجية للواقع، لكنه فعل ذلك تلبية لطموحات فردية يريد بها أن يرسخ ملكه، ويريد أن يوسع رقعة سيطرته.
ويتأكد ذلك عندما ننظر إلى اليابان التي أحدثت نهضة، وفعل مايجي الإمبراطور المصلح (1868 – 1912) ما لم يفعله محمد علي باشا، وهو أنه رسم رؤية فكرية لنهضته، وقد بدأ حكمه بإعلان مبادئ الإصلاح الخمسة في 4 آذار (مارس) 1868 وتناولت:
ومن الجدير بالذكر أن الإمبراطور مايجي اتخذ قرارات عدة لتحقيق تلك المبادئ أبرزها إلغاء بعض الأنظمة القديمة التي كانت تعيق تحقيق الوحدة والمساواة بين أبناء الشعب الياباني، منها:
وقد أقر في المقابل عددا من القوانين والقرارات التي تدفع اليابان باتجاه التحديث والمحافظة على خصوصية اليابان وتقاليده العتيدة، كذلك اتخذ الإمبراطور خطوات عملية منها:
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا أن الإمبراطور مايجي جمع في حاشيته نخبة متميزة من كبار قادة الرأي في اليابان قرابة (400) شخصية من ذوي الاتجاهات المتنوعة والمبادئ المتنورة، وطرحت شعارين يعبران عن المرحلة القائمة خير تعبير، هما:
ومن المصطلحات التي برزت مؤخرا مصطلح المواطنة، وراج هذا المصطلح بعد انتهاء الحرب الباردة بين القطبين كمصطلح يمكن إن يستوعب جانبا من الاضطراب الاجتماعي الذي تعانيه المنطقة.
ومع أن مصطلح المواطنة في الغرب جاء أولا نتيجة وجود الوطن، ولو أخذنا الوطن الفرنسي، فقد جاء هذا المصطلح مرتبطا بالأمة الفرنسية التي تشكلت بعد مسيرة تاريخية خاصة لعبت فيها العوامل الجغرافية دوراً كبيراً في تكوينها، وفي صياغة مصطلح “الوطن”. ويرتبط اسم الوطن الفرنسي أيضا بحقوق الإنسان، وبالمجتمع المدني.
فالمؤكد أن الذي تكون أولا هو “الوطن الفرنسي” كحقيقة موضوعية، وقيمة واقعية، وحوي كل تلك المضامين من التجانس الثقافي والاجتماعي والوجداني والاقتصادي الخ…، وحوي مضامين حقوق الإنسان والمجتمع المدني والأمة الفرنسية والقومية الفرنسية الخ…..
ثم جاء مصطلح “المواطنة الفرنسية” التي تعني الارتباط بتلك القيمة، والتي أفرزت التساوي بين كل أفراد الوطن الفرنسي في الحقوق والواجبات.
ولكن الذي حدث أننا عندما أنزلنا مصطلح “المواطنة” على واقعنا، نسينا أنه لم يتشكل “الوطن” كحقيقة واقعية وكقيمة موضوعية، و إنما تشكل “الوطن” كمسمى سياسي ونتيجة ظروف سياسية معينة، وخير مثال على ذلك العراق الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى بقرار سياسي من الحلفاء، فضم الموصل بعد أن كانت الموصل أقرب إلى تركيا، وسلخ منه دير الزور وألحقها بسورية مع أنها أقرب إلى البيئة العراقية، لذلك برز العراق كياناً سياسياً ولم يتكون “الوطن العراقي” كحقيقة موضوعية، لذلك نخطئ عندما نطلب الثمرة قبل أن نزرع البذرة، فعلينا أن ندعم في أوطاننا عناصر الوحدة الثقافية والاقتصادية و الاجتماعية الخ….، لنكون “وطناً واحداً”، ثم ندقق في وجود “المواطنة”، فذلك أجدى قبل أن نتحدث عن “المواطنة” ونحن نمزق ما هو موحد، ونفرق ما هو مؤتلف.
شهدنا -في السطور السابقة- مدى الاضطراب الذي أحدثته ثلاث مصطلحات غربية في مناخنا الثقافي وواقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الخ….، والسبب في ذلك إنزالها على واقعنا دون تمحيص وتدقيق في أصل حمولتها الفكرية ومحتواها الثقافي، ودلالاتها المختلفة وكيفية تبلورها، لذلك فالقيادات الفكرية مدعوة إلى مراعاة كل هذه الحقائق عند التعامل مع المصطلحات الغربية المترجمة، حتى تتجنب أمتنا مزيدا من الفوضى واللاجدوى.