صنفت مالك بن نبي ضمن المدرسة الإصلاحية في كتابي “الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم” الذي صدر في أول طبعة له عام 1969م ودرست فكره مع فكر محمد عبده كنموذجين لها.
ومن الجدير بالذكر أن تلك المدرسة قامت على الاجتهاد في التوفيق بين الواقع الإسلامي ومعطيات الحضارة الغربية إثر التحدي الذي واجهته الأمة بتفوق أوروبا العلمي والتكنولوجي والمادي إلخ…
وإثر غزو أوروبا لمختلف بلدان العالم الإسلامي بدءاً من احتلال نابليون لمصر عام 1798م وانتهاءً بالاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948م، ومروراً باستعمار اندونيسيا والهند والفيليبين والمغرب والجزائر وتونس وعدن وسورية ولبنان ومصر وليبيا في القرنين التاسع عشر والعشرين إلخ…
لقد نظر مالك بن نبي نظرة شاملة إلى الواقع الغربي والواقع العربي، وصنفه ضمن منظور حضاري، واعتبر أن مشكلة الأمة مشكلة حضارية بالدرجة الأولى.
لقد تجاوزت نظرته تلك نظرات بعض المفكرين الإصلاحيين السابقين الذين كانوا يتعاملون مع الواقع كأجزاء متفرقة، وتأتي الأحكام عليه -بالتالي- مبتسرة وقاصرة.
ويمكن أن نعتبر هذه النظرة الحضارية المتكاملة تطويراً للفكر الإصلاحي استفاد منه المفكرون اللاحقون.
والسؤال الآن: بماذا اتفق مالك بن نبي مع محمد عبده؟ وبماذا اختلف عنه؟
لقد اتفق مالك بن نبي مع محمد عبده مؤسس المدرسة الإصلاحية وأبرز مفكر فيها في مآل أفكارهما، واختلف معه في مدى وعي التراث ووعي الحضارة الغربية.
1- مآل أفكار محمد عبده ومالك بن نبي:
كان محمد عبده أبرز أعلام هذه المدرسة وكانت اجتهاداته وإفتاءاته أوضح معبر عن الفكر الإصلاحي، فاستخدم التأويل لردم الهوة بين الغيب الإسلامي والمادية الغربية، كما أفتى بإباحة الفوائد الناجمة عن صناديق التوفير إلخ…، لكن الإيديولوجيا القومية بكل تفرعاتها: العربية والمصرية هي التي أحبطت جهود هذه المدرسة، فالقومية العربية التي نظّر لها ساطع الحصري في العراق وبلاد الشام، والقومية المصرية التي كان أحمد لطفي السيد من أبرز أعلامها في مصر، دعت إلى العلمانية وتنكرت للدين الإسلامي، واعتبرت أن الأمة تقوم على عنصري اللغة والتاريخ كما هي الأمة الألمانية عند دعاة القومية العربية، واعتبرت أن الأمة تقوم على عنصر الجغرافيا كما هي الأمة الفرنسية عند دعاة القومية المصرية، وأدت هذه المغالطات إلى فقر ثقافي مدقع عانت منه القوميتان: العربية والمصرية نتيجة القطيعة مع واقع الأمة الحي، وجعلهما تتوجهان إلى الحضارة الغربية لملء هذا الفراغ، وقادهما إلى محاولة تغريب الأمة في مختلف المجالات: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والفنية إلخ…، وأدى إلى تعثر المدرسة الإصلاحية، وعدم تحقق اجتهاداتها في أرض الواقع، وانتهت فرصة التوفيق بين الحضارة الغربية والقيم الإسلامية لصالح التغريب.
وإذا استعرضنا الفكر الإصلاحي عند مالك بن نبي فسنجد أنه قام بدور مماثل لما قام به محمد عبده فحاول التوفيق بين معطيات الحضارة الغربية والواقع الإسلامي من خلال عدة أفكار أبرزها: الفكرة الأفريقية-الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج، وكومنولث إسلامي، والمفهومية، وقد كانت العروبة والثقافة الإسلامية هي المرجعية والحدود لكل هذه الأفكار، ولم يتحقق أي منها في أرض الواقع بسبب التوجهات الاشتراكية التي قادها عبد الناصر وأحمد بن بيلا والتي كانت تأخذ مادتها وأهدافها وحقائقها من الماركسية اللينينية, وبهذا انتهت فكرة التوفيق بين الحضارة الغربية والمعطيات الإسلامية عند مالك بن نبي إلى الفشل كما انتهت عند محمد عبده، لكنّها كانت هذه المرة لصالح الجانب الشرقي من الحضارة الغربية.
2- وعي التراث ووعي الحضارة الغربية عند محمد عبده ومالك بن نبي:
ويلحظ الدارس أن الفكر الإصلاحي عند محمد عبده كان أكثر وعياً للتراث واستفادة منه مما هو عند مالك بن نبي، ويتضح ذلك في إبراز الفكر الإصلاحي عند محمد عبده بعض الأصول الفقهية التي يمكن الاعتماد عليها في استيعاب كثير من معطيات الحضارة الغربية من مثل أصل المصلحة المرسلة، ويتضح ذلك -أيضاً- في استناده إلى علم مقاصد الشريعة الذي تبلور في كتاب الشاطبي “الموافقات” حيث نشره محمد عبده وتلاميذه كما حث على الاستفادة من كلام ابن القيم الجوزية عن المصلحة والعدل في كتابه “إعلام الموقعين” و”الطرق الحكمية”، وربما يعود ذلك إلى أن محمد عبده كان أكثر اطلاعاً على الموروث الديني والشرعي في حين أن مالك بن نبي كان أكثر وعياً للحضارة الغربية ويتضح ذلك في حديثه عن أساليب الاستعمار في إخضاع الشعوب وعن القابلية للاستعمار وعن الصراع الفكري في البلاد المستعمرة إلخ… .
أين الخطأ في مقولة “القابلية للاستعمار” ؟
اشتهرت عن مالك بن نبي مقولة “القابلية للاستعمار”، ومنذ البداية لابد من الإقرار بأن هناك إيجابية في طرح هذه المقولة من ناحية توجيه ذهن الباحثين إلى العوامل الداخلية في تخلف الأمة وتأخرها، لكني أرى مبالغة في هذه المقولة من ناحيتين:
الأولى: اعتباره “القابلية للاستعمار” هي التي استجلبت الاستعمار دون الحديث عن العوامل الخارجية:
تحدث مالك بن نبي عن “القابلية للاستعمار” فقال:
“وبهذا نفهم الاستعمار باعتباره “ضرورة تاريخية”
فيجب أن تحدث هنا تفرقة أساسية بين بلد مغزو محتل وبلد مستعمر ، ففي الحالة الأولى يوجد تركيب سابق للإنسان والتراب والوقت ، وهو يستتبع فرداً غير قابل للاستعمار أما في الحالة الثانية فإن جميع الظروف التي تحوط الفرد تدل على قابليته للاستعمار وفي هذه الحالة يصبح الاحتلال الأجنبي استعماراً قدراً محتوماً”(1) .
اعتبر مالك بن نبي استعمار بلادنا الإسلامية “قدراً محتوماً” و “ضرورة تاريخية” نتيجة خلل عطّل كيان الفرد والمجتمع والأمة؛ عطّل عناصر التاريخ فيها، وقتل عناصر الحياة فيها وهذا كلام غير صحيح بدليل أن فرنسا التي استعمرت الجزائر عام 1830م لم تستطع أن تستعمر مصر عندما غزاها نابليون عام 1798م.
وليس معنى ذلك أن الجزائر كانت ذات قابلية للاستعمار في حين أن مصر لم تكن ذات قابلية للاستعمار، فإن النسيج الثقافي واحد في كلا البلدين، لكننا يمكن أن نفسّر نجاحه في الجزائر وفشله في مصر – مع الإقرار بأن هناك أمراضاً في كيان الأمة الداخلي بمختلف تفرعاته: الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية إلخ… – بعوامل خارجية سياسية واقتصادية ساعدت على نجاح الاستعمار من مثل انشغال الخلافة العثمانية بحرب البلقان، وتردي الوضع الاقتصادي مما جعله ينعكس على الإنفاق العسكري بشكل خاص ومستوى العمل العسكري بشكل عام، وتحسن الوضع الاقتصادي لدى أوروبا مما ساعدها على زيادة الإنفاق العسكري، وكون الجزائر مقابل الحدود الجنوبية لفرنسا إلخ…، ومما يؤكد ذلك أن المعلومات التاريخية تقول إن الجزائر كانت أقل أمية من فرنسا عندما احتلتها عام 1830م، وتقول كذلك إن ثلث أبنية مدينة الجزائر كانت أوقافاً مما يعطي قوة ورخاءً للوضع الاجتماعي الداخلي لم تكن تتمتع به باريس ذاتها.
الثانية: تجاهله دور الاستعمار في ترسيخ وتوسيع دائرة “القابلية للاستعمار” كعامل داخلي:
تحدّث مالك بن نبي في موضع آخر عن “القابلية للاستعمار” باعتبارها عاملاً باطنياً فقال : “ونحن في هذا الفصل نريد أن نتعرض لعامل ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصبغة ، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار وحدّد معها حركاته وأفكاره”(2).
ثم قال “إن المستعمر يريد منا بطالة يحصل من ورائها يداً عاملة بثمن بخس فيجد منا متقاعدين ، بينما الأعمال جدية تترقب منا الهمة والنشاط . وهو يريد منا جهلة يستغلّهم ، فيجدنا نقاوم ذلك الجهد البسيط المبذول عندنا ضد الأميّة وهو جهد “جمعية العلماء” .
وهو يريد منا انحطاطاً في الأخلاق كي تشيع الرذيلة بيننا ، تلك الرذيلة التي تكون نفسية رجل (القلة) ، فيجدنا أسرع إلى محاربة الفضيلة التي يحاول نشرها العلماء في بلادنا، وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفرادها شيعاً وأحزاباً، حتى يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية ، كما هم فاشلون في الناحية الاجتماعية ، فيجدنا متفرقين بالسياسات الانتخابية ، التي نصرف في سبيلها ما لدينا من مال وحكمة ، وهو يريد منا أن نكون أفراداً تغمرهم الأوساخ ، ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح ، حتى نكون قطيعاً محتقراً يسلم نفسه للأوساخ والخنازير فيجدنا ناشطين لتلبية دعوته .
وبذلك تكون القلّة مزدوجة ، فكلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج ، فإننا نرى في الوقت نفسه معاملاً باطنياً يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا”(3) .
تحدّث مالك بن نبي عن “القابلية للاستعمار” باعتبارها عاملاً داخلياً وبيّن أن الاستعمار يريد منا البطالة والجهل والانحطاط في الأخلاق والتفرق والوساخة وأن باطننا يستجيب لكل تلك الطلبات لأننا نملك “القابلية للاستعمار”، هذا ما قاله مالك بن نبي في منتصف القرن العشرين، لكن مالك بن نبي لم يسأل نفسه: ما دور الاستعمار الفرنسي في وجود هذه الظواهر التي رصدها وبخاصة أن كلامه عن “القابلية للاستعمار” جاء بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر بأكثر من مائة سنة؟
الحقيقة أننا لا نجد أية إشارة إلى دور الاستعمار الفرنسي في تطوير مثل هذه الأمراض وتعميقها، مع أن الدراسة الفاحصة لمخططات الاستعمار الفرنسي تبيّن أنه حاول اقتلاع الشعب الجزائري اقتلاعاً كاملاً من جذوره الحضارية، و عمل على تدمير شخصيته العربية والإسلامية، واجتهد في تغيير هويته التاريخية، وفرض عليه التغريب بشكل قسري وكامل، واعتبر الجزائر فرنسا ما وراء البحار، وجاء بالمستوطنين الذين أعطاهم أخصب الأراضي ، وفرض اللغة الفرنسية ، مما جعل مالك بن نبي وهو العربي المسلم لا يعرف الكتابة بلغته العربية ، لذلك ألّف كتبه الأولى باللغة الفرنسية ، ولم يستطع الكتابة باللغة العربية إلا في مرحلة متأخرة من حياته بعد أن جاء إلى المشرق العربي وأتقن اللغة العربية فيها.
ليس من شك بأن تلك الأفعال الاستعمارية من اقتلاع وتدمير وتغيير وتغريب كانت لها الآثار السلبية والتخريبية على المجتمع والإنسان الجزائريين في مختلف الأبعاد النفسية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية إلخ…
فالاستعمار -إذن- هو العامل الأكبر في توليد البطالة وإنسان القلّة، وفي تعميق الجهل والقذارة، وفي توسيع الانحطاط في الأخلاق.
فالاستعمار -إذن- هو الفاعل الأكبر في ترسيخ هذه المظاهر التي شاهدها مالك بن نبي بعد أكثر من مائة سنة على مجيء الاستعمار إلى الجزائر.
(1) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص102.
(2) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص206.
(3) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص207.