إن أبرز ما تبشر به أمريكا العرب بعد احتلالها للعراق في 7 من نيسان/أبريل 2003م هي إقامة الديمقراطية فيه، وتدعي أنها ستجعل العراق واحة للديمقراطية التي ستكون نموذجاً يحتذى في الشرق الأوسط ومن قبل العرب الآخرين، لكن أمريكا تنسى أو تتناسى أن بريطانيا عندما احتلت العراق في عام 1917م أثناء الحرب العالمية جاءت بالمزاعم نفسها، فهل تحققت الديمقراطية؟ وما العوامل التي حالت دون تحيققها؟
نصبت بريطانيا فيصل الأول ملكاً على العراق عام 1921م، إثر استفتاء شعبي أجرته السلطات البريطانية، وقد حصل الملك فيصل على موافقة 96٪ من أصوات الناخبين، ثم أجريت انتخابات عام 1924م على مستوى العراق وتكوّن في وقتها برلمان، صاغ دستوراً أقر بالحريات العامة للمواطنين، ومكنهم من تشكيل الأحزاب، وقد أتاحت الحرية المتوفرة إلى نمو قيادات فكرية وثقافية متنوعة ومتعددة متأثرة بما كان يصدر من كتابات في مصر وسورية ولبنان، مثلتها جماعة “الأهالي” و”نادي المثنى” و”الحزب الشيوعي” وبعض الجماعات الأخرى.
وبعد أن ثار رشيد عالي الكيلاني في عام 1941م، واحتل الانجليز البصرة مرة ثانية، وعادت الأسرة الهاشمية إلى الحكم، فقد أعلن عبد الإله في خطاب له في أواخر عام 1945م الدولة العراقية ملكية ديمقراطية حرة مستقلة، ومن المعلوم أن العراق قد تمتع بحرية واسعة نسبياً، فنشأت أحزاب جديدة مثل: الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال ذو التوجه القومي العربي، وحزب الجبهة الشعبية المتحدة برئاسة طه الهاشمي، وحزب الاتحاد الدستوري الذي شكله نوري السعيد، وحزب الأمة الاشتراكي بقيادة صالح جبر إلخ…
ولقد ذكر بعض الباحثين أبرزهم (غابرييل ألموند) أن هناك عدة عوامل يجب توافرها من أجل النجاح في تطبيق الديمقراطية أهمها: قيم وثقافة وسياسة، ورخاء اقتصادي، وفئة تؤمن وتدافع عن الديمقراطية، ودعم خارجي، فلو طبقنا المعايير السابقة لوجناها متوفرة في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، فقد كان الوضع الاقتصادي جيداً في العراق، وهناك رجالات وأحزاب تؤمن بالديمقراطية وتدافع عنها من أمثال كامل الجاورجي وياسين الهاشمي وغيرهما، وهناك الدعم الخارجي الواضح من الانكليز للنموذج الديمقراطي، ولكن لم تترسخ الديمقراطية في العراق مع كل هذه الإيجابيات، ولم تصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي في العراق، فما السبب؟
يعود السبب إلى مفهومي القومية والوطنية اللذين يعتبران الجدار الذي يستند إليه النظام الديمقراطي، فبدون هذا الجدار لن يقوم نظام ديمقراطي، وبالفعل لم ينجح مفهوما القومية والوطنية في بلورة قاعدة لهما في العراق، ولم ينفذ إلى الكيان الحياتي للمواطنين، فالقومية العربية التي يتوجب أن تكون قومية ثقافية، تحولت إلى قومية عنصرية شوفنية تضطهد غيرها من الأقوام، والوطنية العراقية التي يفترض أن تكون رابطة تجمع العراقيين كلهم وتصهر جهودهم في بناء العراق لم تتبلور، ولم تتولّد، بل برزت “العشيرة” و”الطائفة” و”المذهب” إلخ…
إن ذلك الارتكاس والارتداد في مفهومي القومية والوطنية هما اللذان يحتاجان إلى الفحص والتصويب من أجل تحديد العناصر والعوامل التي تبني الأمة بناءً صحيحاً على ضوء الواقع بشكل تفصيلي.