tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

تحليل الواقع الغائب في ممارسة “الجماعة الإسلامية”

نشأت “الجماعة الإسلامية” في سبعينات القرن الماضي حصيلة عمل طلاب الجامعات المصرية الذين رفضوا الانضمام الى “الاخوان المسلمين”، وقد تشكلت قيادتها من شبان حديثي السن اضطروا في مرحلة لاحقة الى اختيار الدكتور عمر عبدالرحمن أحد أساتذة الجامعة ليكون مفتياً لهم، ثم قرروا اغتيال السادات اثر تهجمه على رجال الدين، واستصدروا فتوى بذلك من الشيخ عبدالرحمن واغتالوه في 6 من تشرين الأول اكتوبر عام 1981، ثم قاموا بتمرد أسيوط استطاعت الدولة ان تحبطه وتعتقل مدبري الاغتيال الذين أجريت محاكمتهم وأعدم عدد من قيادتهم وأودع عدد آخر السجون.

وقامت قيادات الجماعة باصدار مبادرة بوقف العنف من طرف واحد في تموز يوليو عام 1997، ثم أتبعتها بمراجعات لأفكارها القديمة مثل الجهاد والتكفير والأقباط وقتل المستأمن السياح الخ…
وكانت الجماعة أباحت سرقة أموال الأقباط، وبالفعل قام بعض عناصرها بمهاجمة عدد من محلات بيع الذهب وسرقة الموجود وبيعه، وقُتل عدد من الاشخاص المسيحيين والمسلمين اثناء هذه الهجمات.
لكنها اعتبرت في مرحلة المراجعات ان الجزية مال تأخذه الدولة مقابل الإبقاء على دين أهل الكتاب، وتأمينهم على دمائهم وأموالهم، واعتبرت انه لا يجوز للأفراد أخذ الجزية من اهل الكتاب في حال امتناع الدولة عن أخذها كما هو الوضع – الآن – في مصر، لأن الافراد لا يستطيعون ان يحققوا المنصوص عليه في هذا العهد.
نلحظ مما سبق ان الجماعة انتقلت من حكم الى آخر، لكن غاب عنها في الحالين ان قضية الأقليات هي القضية الساخنة منذ القرن التاسع عشر وهي التي اضطرت الخلافة العثمانية الى ادخال اصلاحات جذرية في كيانها من خلال مرسومين أبرزهما خط كلخانة عام 1839، والخط الهمايوني عام 1856، اللذان أدخلا حقوق المواطنة، واعترفا بحقوق الانسان في صلب التشريعات العثمانية، كما ربطا اقتصادها باقتصاد السوق.
ومن الجليّ ايضاً ان قضية الأقباط في مصر لا تقل سخونة عن قضية الأقليات المسيحية في بلاد الشام، لذلك كان الواجب الا تتعامل الجماعة معها من خلال النصوص الشرعية فقط، بل ان تعي واقع الاقباط، وتنظر اليه من زاويتين:
الأولى، الوضع الداخلي الذي تبلور خلال المائتي سنة الماضية وتجسد بعلاقات وطيدة ومتقدمة بين المسلمين والمسيحيين لا مجال فيها لأي تراجع الى الوراء، والذي يطمح الى ان يحقق حال المواطنة بين الطائفتين في شكل سليم وكامل، والثانية، الوضع الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والذي يرغب في استغلال هذه القضية أبشه استغلال، فلو ان الجماعة الاسلامية وعت قضية الأقباط وعياً واقعياً وحللتها تحليلاً تفصيلياً لما كان تعاملها مع الأحكام الشرعية هو الانتقاء منها بحسب ظروفها الخاصة، ولكان الواقع هو الذي فرز الحكم الشرعي والذي يقضي بالمحافظة على العلاقات الحسنة التي قامت بين المسلمين والمسيحيين وعدم السماح لها بالانتكاس، ولما كان هناك تذبذب في التعامل مع قضية الأقباط، والانتقال من حكم شرعي الى آخر نقيض له بهذه السهولة، ولوفرت على نفسها وعلى الأمة مثل تلك الخسائر في الدماء والجهود والطاقات.
قامت الجماعة الاسلامية ببعض الاعمال العسكرية في داخل مصر، فاغتالت السادات عام 1981، كما اغتالت عدداً من ضباط الأمن، ثم اغتالت رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب، كما حاولت اغتيال عدد من وزراء الداخلية، وهي في كل ذلك انطلقت من اعتبار الحكام مبدلين لشرع الله، لذلك أباحت مقاتلتهم، ثم عادت فاعتبرت ان هذه الاعمال الجهادية لم تصل الى غايتها وهي هداية الناس الى الحق، بل ألقت الشباب في التهلكة وتسببت في استباحة دماء معصومة، وهي بناء على هذه الاخطاء عادت ورأت عدم جواز مثل هذا الجهاد، وهي في الحالين لم تنطلق من تحليل واقع الأمة في مصر، ولم تدرس كل العوامل الفاعلة في كيان مصر والمصريين، بل انطلقت من عنصر واحد هو الحكام المستبدلون لشرع الله، لذلك انتقلت من حكم الى نقيضه، مع ان تحليل الواقع يبين ان هناك عناصر اخرى في لوحة الواقع المصري أبرزها الشعب المصري الذي هو جزء من الأمة العربية الاسلامية، وهو المستهدف من الاستعمارين القديم والحديث، وأن سقوط الخلافة وذهاب الاحكام الشرعية لا يعني انتهاء الاسلام وتحول مصر الى دار حرب نستبيح كل شيء فيها، بل هناك وجود اسلامي في مصر، وعلينا ان ندعم هذا الوجود في مواجهة الاعداء المستعمرين الذين يستهدفون اقتصاد الشعب المصري ووحدته وكيانه وقوته الخ…، فتدعيم هذا الوجود هو الأصل الذي يجب ان نبني عليه من اجل اعادة الاحكام الشرعية.
اما قضية السياحة فقد انطلقت الجماعة الاسلامية في موقفها منها من حرمة السياحة كنشاط اقتصادي، وانه يجر الى مفاسد كثيرة ابرزها المفاسد الاخلاقية، لذلك قامت بعمليات عسكرية ضده، ولكن تبين في فترة لاحقة ان استهداف السياحة دائماً يضر بالسياح، ويؤدي الى قتلهم، وهو حرام مع المستأمن الذي تعطيه الدولة عهد الأمان عند دخوله مصر، لذا فقد حرمت الجماعة ما يؤدي الى محرّم، لكن هل السياحة هي المحرّم الوحيد الذي تمارسه مصر كنشاط اقتصادي؟ فهناك المؤسسات الربوية، وهناك المصارف، وهل السياحة – وحدها – هي مصدر المفاسد الاخلاقية في مصر؟ لا، فهناك الملاهي، والانتاج السينمائي الهابط، والمخدرات، والعري الخ…
لا شك في ان اختيار الجماعة لهذا الهدف ثم التراجع عنه بهذه السهولة يعود الى غياب التحليل التفصيلي لخريطة مصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية الخ… لأن القيام بمثل هذا التحليل سيبرز دور اسرائيل كأخطر العوامل على كيان مصر السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والحضاري الخ… وسيقدم العمل ضد اسرائيل على العمل ضد السياحة، وسيجعل الجماعة تقع في مواجهة اكثر سخونة مع اطراف داخلية وخارجية ودولية، وستعقد موقفها، لكنها لم تفعل ذلك لأنها لم تنطلق من تحليل الواقع بل انطلقت من انتقاء الاهداف انتقاء معيناً بحسب وضعها الخاص.
ان غياب تحليل الواقع في الحالات التي استعرضناها هو العامل المشترك وهو الذي افضى بها الى الانتقال من الحكم الى نقيضه، مع ان الأصل في اي عمل سياسي ان يكون تحليل الواقع هو المرشد اليه، وهو الذي يحكمه.

اترك رد