قفز حزب البعث إلى الحكم في سوريا عام 1963، ويمكن أن نميز مرحلتين في حكمه لسوريا: الأولى، تمتد من 1963 إلى 1970 وهي المرحلة حكمت فيها اللجنة العسكرية سوريا من خلال حزب البعث. والثانية تمتد من 1970 حتى الوقت الحاضر، وهي المرحلة التي حكم فيها حافظ الأسد وابنه بشار سوريا. وتتصف المرحلتان بعدة صفات هي:
الأولى، الاستبداد والبطش والعنف تجاه جماهير الشعب في سوريا: كان الاستبداد هو الصفة التي امتاز بها حكم البعث في سوريا منذ عام 1963، فلم تجر انتخابات حقيقية ليعبر الشعب فيها عن رأيه وكل الانتخابات التي جرت، سواء أكانت الانتخابات النيابية أم الرئاسية أم الانتخابات الأخرى على مستوى النقابات، كانت تطبخ في دهاليز الأجهزة الأمنية، وهي التي كانت تحدد القوائم الفائزة، ثم كانت تجري عمليات شكلية من ترشيح وفتح مراكز اقتراع، وإجراء حملات انتخابية وخطابات، وتحديد أسماء الناخبين، ثم إعلان النتائج في نهاية المطاف.
وكذلك كان العنف هو السمة التي ربطت قيادة البعث بجماهير الشعب السوري، فباستمرار كان هناك بطش بفئة من الفئات، ففي عام 1963 تم البطش بالناصريين، ثم جاء البطش بالإسلاميين عام 1964، وفي 1965 مورس من خلال قصف واحتلال المساجد في حماة وحمص ودمشق.. ثم جاء إقصاء الدروز والبطش بهم عام 1966، ثم جاء إقصاء الإسماعيلية والبطش بهم عام 1969، ثم جاء تدمير حماة عام 1982، وها هو الآن يعود إلى العنف والبطش بمختلف المدن وتجاه مختلف جماهير سوريا: في درعا وحمص ودمشق وضواحيها واللاذقية وبانياس ودير الزور وإدلب.
وقد ساعد حزبَ البعث على النجاح في العنف والبطش والاستبداد في سوريا، اثنا عشر جهازا أمنياً بناها، وربط بها مقومات الدولة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
وربط بها كل معاملات المواطن من بيع وشراء واستيراد وسفر وطباعة ونشر وزراعة وصناعة.. وهي بالإضافة إلى كل ذلك ترصد أنفاس المواطنين وتحاسبهم، وتزرع الرعب في قلوبهم، وتدفعهم إلى إظهار الولاء والطاعة للنظام.
الثانية، اللادينية: لم يكن حزب البعث طوال الخمسين سنة الماضية لادينياً فقط، بل مارس العنف نحو الدين والمتدينين، وحاول اقتلاع الدين من حياة الشعب، واعتبره مولّدا للخرافة والأوهام والسلبية، واعتبره مطيّة للرجعيين والأغنياء، لذلك سخّف كل مقولاته، واعتبر أن الانتقال إلى النهضة والدخول إلى عصر الحداثة يتطلبان محوه من حياة الشعب، وأسقط حزب البعث كل مواقف أوروبا من الدين على وضع الدين في سوريا، مع أن وضع الدين الإسلامي ودوره مختلفان عن دور الكنيسة في أوروبا، وقد طرحت بعض الشعارات والأقوال المعادية للدين بشكل فاقع بين وقت وآخر من مثل قول الشاعر:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له ** وبالعروبة ديناً ما له ثاني
الثالثة، العنصرية: مارس حزب البعث العنصرية تجاه الأجناس الأخرى، وأبرزهم الأكراد، فقد قام حزب البعث باضطهاد الأكراد، وطردهم من قراهم الحدودية مع العراق وتركيا، من أجل الحيلولة بين تواصلهم مع بعضهم بعضا في كل من العراق وسوريا وتركيا.
الرابعة: الفساد المالي: لقد اتسم حكم البعث في كل مراحله بالفساد المالي وبالإثراء غير المشروع للطبقة الحاكمة وللأجهزة الأمنية، وربما اتضح الإثراء غير المشروع في عهد حافظ الأسد أكثر من غيره بسبب طول مدة حكمه التي قاربت ثلاثين عاما، وقد أشار باتريك سيل إلى ذلك في كتابه “”الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”” بسرقة أموال كثير من المشاريع التي تقرر إقامتها الدولة في خططها التنموية، وأنها تنتهي إلى عدم قيامها، وهذا ما جعل البلد تفقد كثيراً من المشاريع.
لماذا اتصف حكم البعث لسوريا بتلك الصفات؟
السبب هو الفكر القومي العربي الذي اعتمده حزب البعث، والذي أصبح بمثابة أيديولوجية له، وعند التدقيق في محتوى الفكر القومي العربي الذي تبناه حزب البعث العربي الاشتراكي نجد بذوراً لتلك الشرور التي اتسم بها حكم البعث.
فقد جاءت صفة البطش والعنف والاستبداد من أن حزب البعث كان حزب أقلية محدودة العدد جداً، فعندما قامت اللجنة العسكرية في حزب البعث بالانقلاب عام 1963 فقد كان عدد الأشخاص المنتظمين في حلقات حزب البعث محدودا ولا يتجاوز بضع مئات، مما جعلهم يعوضون تلك القلة بالبطش والإرهاب ومضاعفة الأجهزة الأمنية من أجل أن يستطيعوا ضبط الشارع وتسييره، واستمرت ظاهرة قلة المنتمين إلى حزب البعث موجودة في مرحلة حافظ الأسد، فقد ذكر باتريك سيل في كتاب “”الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”” أن قيادة حزب البعث لم تجد أفراداً من أهل مدينة دمشق عام 1973 لوضعهم على رأس قيادة فرع مدينة دمشق، فاضطرت إلى تعيينهم من خارج مدينة دمشق من أجل قيادة الفرع فيها.
وقد جاءت صفة اللادينية من اعتبار حزب البعث أن الأمة العربية قامت على عنصري اللغة والتاريخ, وأن الدين ليس مكوناً من مكونات الأمة العربية، ومن العلمانية التي اتسمت بها كل مراحل حزب البعث وقياداته، وزادت الوتيرة ضد الدين، واشتدت المحاولات لاستئصاله من حياة الشعب عندما ارتبطت القومية العربية بالتوجه الاشتراكي، فتبنى حزب البعث كل المقولات الاشتراكية الماركسية التي تعتبر الدين أفيوناً للشعوب، وتعتبر الدين مولداً للسلبية والخنوع، وتعتبر عالم الغيب في الدين خرافات وأوهاماً تعطل العقل البشري وتعرقل التقدم الإنساني.
وجاءت العنصرية في حزب البعث من تمجيد الجنس العربي، وقد بدأ هذا التمجيد والاستعلاء في وجه القومية التركية مع مطلع القرن العشرين، ثم استتبع القوميات الأخرى وأبرزها الكردية، وأبرز مظاهر التمجيد العنصري هو الشعار الذي طرحه حزب البعث وهو: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة.
والذي يعني أن الأمة العربية قادرة على فرز رسالة جديدة من أجل قيادة البشرية، كما أفرزت رسالة سابقة وهي “”رسالة الإسلام”” التي تعتبرها القومية أحد تجليات عبقرية الجنس العربي.
وقد زادت شحنة التمجيد للعنصر العربي في اعتماد حزب البعث العربي الاشتراكي على زكي الأرسوزي منظراً للحزب في عهد حافظ الأسد بدلاً من ميشيل عفلق، والذي يعتبر العصر الجاهلي هو العصر الذهبي بالنسبة للأمة العربية، وقد لعبت عدة عوامل في تقديم الأرسوزي وتأخير ميشيل عفلق منها: معرفة حافظ الأسد لزكي الأرسوزي أثناء مرحلة التلمذة الثانوية في اللاذقية، ومنها اصطدام القيادة القطرية مع القيادة القومية التي يرأسها ميشيل عفلق، وبحثهم عن بديل لعفلق، فكان زكي الأرسوزي هو محل الاختيار.
هل يعني ذلك أن المرحلة الأولى من حكم حزب البعث لا تختلف عن المرحلة الثانية التي حكم فيها حافظ الأسد وابنه بشار؟ من الواضح أن المرحلة الثانية لا تختلف عن الأولى في الصفات التي ذكرناها، ولكن بداية مرحلة حكم كل من حافظ الأسد وابنه بشار اختلفت قليلاً عما قبلها وما بعدها.
اختلفت بداية حكم حافظ الأسد عام 1970 بأنها كانت بداية براغماتية، قصد فيها كسب المزيد من التأييد، وذلك عبر التخفيف من الأطروحات السياسية والاشتراكية المتطرفة، وإعطاء الحريات لأصحاب رؤوس الأموال بالاستيراد والتصدير، والانفتاح على الدول العربية المعتدلة كالأردن والسعودية، في حين أن بداية بشار الأسد أعطت أملاً للناس في حريات سياسية كما اتضح في ربيع دمشق عام 2001، لكن تلك البدايتين انحسرتا عند حافظ الأسد وابنه بشار، وعادت الأمور إلى سابق عهدها بعد أن رسخا حكميهما.
الخلاصة: إن حكم البعث في سوريا اتصف بعدة صفات، أبرزها: الاستبداد والعنف والبطش، ومحاولة اقتلاع الدين من حياة الشعب، وظهور العنصرية في ممارساته اتجاه الأجناس الأخرى، والفساد المالي، وقد وجدنا جذور هذه الصفات في الفكر القومي العربي الذي كان أيديولوجية حزب البعث خلال الخمسين سنة الماضية.
المقال في الجزيرة البعث في سوريا.. الواقع والأسباب