ها قد حصل في تونس، ما حصل في مصر قبل عام 2013، وما حصل في الجزائر عام 1990، فقد أعلن قيس سعيد رئيس الجمهورية تجميد البرلمان، وحل الوزارة، وتشكيل وزارة جديدة، وإعلان حالة الطوارئ، ثم أوكل تشكيل الوزارة إلى إحدى النساء في خطوة غير مسبوقة في تونس، وهي توكيل امرأة برئاسة الوزراء، والمقصود من ذلك كسب تأييد النساء في تونس من جهة، وإثبات تقدمية الحكم من جهة ثانية.
مع أن الانتخابات في البلدان الثلاثة الجزائر ومصر وتونس كانت سليمة بحسب التقارير الدولية، ولا يحق للقيادات العسكرية إزاحة القيادات المدنية التي وصلت عن طريق الانتخاب إلا بانتخابات جديدة، وهذا ما لم يحدث، فما السبب؟
السبب واضح وهو التباين في فهم الديمقراطية ومضمونها بين الفهمين الشعبي والغربي، فالفهم الشعبي المطرد للديمقراطية على اتساع نطاق العالم العربي، هو أن الديمقراطية عملية انتخابية، وبأن الفائز بأكثرية المقاعد، هو الذي يجب أن يحكم بناء على الشرعية التي يحصل عليها عن طريق الانتخاب.
ولكن الفهم الغربي للديمقراطية عند رعاتها وأربابها الغربيين، ليست انتخابات فحسب، بل هي بالإضافة إلى الانتخاب قيم ومبادئ تستند إلى قيم الحضارة الغربية التي تبلورت عبر عدة ثورات متعددة في أوروبا وأمريكا منها: الثورة الأمريكية عام 1775م، والثورة الفرنسية عام 1789م والتي جاءت صدى وانعكاسات لآراء الكتاب التنويريين من أمثال ديكارت وكانت وروسو وفولتير إلخ …، وهذا التنوير لم يتحقق في الأحزاب الإسلامية التي ثارت في الجزائر ومصر، ومع أنه تحقق شيء من هذا في تونس بشكل جزئي، ولكن هذا لم يرضهم فهم لا يثقون بالإسلاميين مهما قدموا من تنازلات، ويعتبرون تلك التنازلات تكتيكًا يخفي استراتيجية تستهدف الاستيلاء الكامل على السلطة والانقلاب على الحكم.
لذلك فالمطلوب من الجماهير الإسلامية وقياداتها، أن تعي من الآن فصاعدًا أن الديمقراطية عند الغربيين لا تعني حصولك على أكثرية أصوات الناخبين، ولكن عليك أن تستسلم لقيم الحضارة الغربية ومبادئها، وتثبت ذلك عمليًا وأهمها:
مبدأ الحرية المطلقة للفرد، ونسبية الحقيقة، والمادية، وحقوق الإنسان وحقوق المرأة بالمعنى الغربي إلخ، ودون مراعاة لأي خصوصية أو أية هوية أو أي شخصية تميزت بها، بل عليك أن تنقل قيم ومبادئ الحضارة الغربية كما طبقتها الحضارة الغربية، وإذا لم تفعل ذلك فإن الغرب سيحرك الدولة العميقة بجيوشها وأجهزتها الأمنية لتنقلب عليك وتطردك من الحكم.
الغرب لا يفهم الديمقراطية بأنها عملية انتخاب كما هو الفهم الشعبي لها عندنا، بل الديمقراطية هي انتخاب ومبادئ، وإذا تخلفت المبادئ، أو نجح من يحمل تاريخًا شخصيًا مرتبطًا بقيم أخرى غير المبادئ الغربية، فإن مصيره الإزاحة كما حدث في حالة محمد مرسي، وكما يحدث الآن في حالة راشد الغنوشي.
لذلك أعتقد أن جماهير الأمة بشكل عام وجمهور الإسلاميين بشكل خاص مستعدة أن تقبل الديمقراطية كعملية انتخابية، وتخوضها وتساهم فيها، ولكن الغرب هو الذي يحول دون تحقيق ذلك، ويستخدم عصاه الغليظة ليطرد الإسلاميين عندما يفوزون بواسطة القوة العسكرية المتمثلة بالجيوش والأجهزة الأمنية.
والسؤال الآن: لماذا وقع التباين بين الفهمين: الشعبي والغربي للديمقراطية؟
وقع التباين بسبب الديمقراطيين العرب دعاة الديمقراطية في منطقتنا العربية، وحرصهم على ترويج الديمقراطية وتزيينها وجعلها مقبولة، لذلك سكتوا عن جانب المبادئ من الديمقراطية، وأشهروا جانب الانتخاب، وأصروا أن هذه هي الديمقراطية، لذلك فهم قد نجحوا في جعل الديمقراطية مقبولة عند جماهير الأمة، لكن الحقيقة مهما اختفت لا بد من أن تظهر في النهاية ويستسلم لها الجميع.
الغرب لا يفهم الديمقراطية بأنها عملية انتخاب كما هو الفهم الشعبي لها عندنا، بل الديمقراطية هي انتخاب ومبادئ، وإذا تخلفت المبادئ، أو نجح من يحمل تاريخا شخصيا مرتبطا بقيم أخرى غير المبادئ الغربية، فإن مصيره الإزاحة كما حدث في حالة محمد مرسي، وكما يحدث الآن في حالة راشد الغنوشي.
لكني لا ألوم دعاة الديمقراطية المفتونين بالحضارة الغربية ـ وحدهم ـ على ترويجهم للديمقراطية، واتباع أساليب ملتوية في ترويجهم لبضاعتهم، فهذا شأنهم، ولكني أعتب على القيادات الإسلامية التي سكتت عن افتئات أولئك المفتونين بالحضارة الغربية ولم تفند أقوالهم، وتوضح حقيقة الديمقراطية لجماهير المسلمين، قبل أن تدفع هذه الجماهير ثمن معرفة الحقيقة من دمائها وأموالها وتشريدها واعتقالاتها، وهو ثمن باهظ، وهو ما وقع لمرتين حتى الآن:
الأولى ـ في الجزائر، مع تجربة عباسي مدني في الفوز بانتخابات الجزائر عام 1990 بشكل كاسح، والتي أعقبها أن قفز الجيش إلى السلطة وألغى الانتخابات وبدأت العشرية الحمراء التي أطلقت على السنوات العشر التالية حيث ساهم الجيش والمخابرات والأجهزة الأمنية في افتعال معارك مع الإسلاميين والتي انتهت بما يقارب المليون قتيل حسب روايات الحكومة وتدمير مناطق بكاملها في الجزائر.
الثانية ـ في مصر مع تجربة محمد مرسي وفوزه بانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2012، ثم قفز الجيش إلى السلطة في عام 2013 بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي، وألغى الانتخابات، واعتقل رئيس الجمهورية، وعطل العمل بالدستور، وحل البرلمان والوزارة، ثم أجرى انتخابات جديدة فاز الفريق السيسي بها، فأصبح رئيسًا للجمهورية، ووقع تصادم بين سلطة عبد الفتاح السيسي وجماهير الشعب المصري وكانت حصيلته السجن لعشرات الآلاف، والقتل للآلاف، والتشريد والمطاردة لمئات الآلاف وإصدار أحكام الإعدام على آلاف الأشخاص، وتعثر الاقتصاد، وانتشار الفساد،… والتراجع في مختلف المجالات الاجتماعية والثقافية والتربوية..
من الضروري أن ترسخ القيادات الإسلامية في أذهان جماهير الأمة أن الديمقراطية التي يريدها الغرب ويسمح بها ذات شعبتين: انتخابات ومبادئ، وأنهما ملتحمتان، وأنهما لا تنفكان عن بعضهما عنده، وأنه لا يقبل بانتخابات دون مبادئ، لذلك علينا أن ننظر إلى الديمقراطية هذه النظرة، لكي لا نلدغ مرة أخرى من هذا الجحر.
وقع تباين بين الفهمين الشعبي والغربي للديمقراطية، فقد اعتبرها الفهم الشعبي أنها انتخابات فقط، في حين أن الفهم الغربي اعتبرها انتخابات ومبادئ، وهذا التباين في الفهم للديمقراطية جعل الأمة تدفع ثمنًا غاليًا من دماء أبنائها، وتشريدهم، وعذاباتهم في محطتين سابقتين من تاريخ العمل السياسي في الجزائر عام 1990م، وفي مصر عام 2013م، والمتوقع الآن أن تدفع ثمنًا ثالثًا في تونس، وهو ما يقوم به قيس سعيد.
فاللوم في هذا التباين في فهم الديمقراطية لا تقع مسؤوليته على دعاة الديمقراطية المفتونين بالحضارة الغربية الذين اتبعوا أساليب ملتوية في ترويج بضاعتهم فقط، ولكنه يقع أيضاً على القيادات الإسلامية التي سكتت على الأساليب الملتوية لأولئك الدعاة، ولم تقم بتفنيدها وفضحها وتوضيحها في حينه.