بعد ما يقرب من سنتين على “طوفان الأقصى”، والتي تبينت في التضحيات الجلى التي قدمها أهلنا في غزة والتي ظهرت في عشرات آلاف الشهداء، وما يزيد من مائة ألف من الجرحى والمصابين والمعاقين، وتدمير معظم بيوت أهل غزة، ونزوحهم عدة مرات، وتدمير المستشفيات، وتعطيل كل الخدمات والمرافق الضرورية للحياة، من ماء وكهرباء، إلخ…
في هذا الجو المملوء برائحة الموت والبارود صدرت آراء تندد بالمقاومة وتقول: يا ليتنا لم نقاتل، ويا ليتنا لم نقاوم، لهول الدمار والقتل والجراح التي وقعت في غزة، وقد اعتبرت أن هجوم المقاومة في تشرين الأول/ أكتوبر على السياج واقتحامه هو “جهاد طلب” وأن المقاومين لم يستوفوا الشروط والأركان التي يتطلّبها “جهاد الطلب” لذلك اعتبروا جهادهم غير مشروع. وقد ردت وجهة نظر أخرى عليهم بأن جهاد المقاومة في غزة هو “جهاد دفع” وهو جهاد مشروع.
لكن الحقيقة أنه عند التدقيق في وجهتي النظر نجد أنهما تختلّف فيهما بعض الأركان والشروط والأسباب، وأبرزها: غياب الإمام المسلم وغياب الدولة المسلمة، ذات السلطة المتمكنة على الأرض وذات الاقتصاد المستقل، وذات الجيش المسلح تسليحًا قويًا وكاملًا، وكما كانت الدولة غائبة وغير موجودة وكما أن الدولة والإمام مطلوبان في حال “جهاد الطلب” فإن الدولة والإمام مطلوبان كذلك في حال “جهاد الدفع”، نقل القرضاوي في كتاب “فقه الجهاد” ص/92 رأي ابن رشد الجد: “ونقل القرافي عن صاحب (المقدمات) –وهو ابن رشد الجد- قوله: إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور: سقط فرض الجهاد عن جماعة المسلمين، وبقي نافلة، إلا أن ينزل العدو ببعض بلاد المسلمين، فيجب على الجميع إعانتهم، بطاعة الإمام في النفير إليهم. (الذخيرة (3/386) وانظر: المقدمات والممهدات (1/263))”.
وقد نقل القرضاوي في كتاب “فقه الجهاد” ص/88-89 عن حكم الجهاد:
“وجمهور الفقهاء على أن الجهاد فرض كفاية، وإن ذهب بعضهم إلى أنه فرض عين. كما روي عن بعض السلف: أنه من باب التطوع لا الفرض.
قال الخِرَقي في مختصره: (والجهاد فرض على الكفاية، إذا قام به قوم، سقط عن الباقين) وشرحه الإمام ابن قدامة في (المغني) فقال: (معنى فرض الكفاية: الذي إن لم يقم به مَن يكفي، أثم الناس كلهم، وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس. فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره. والجهاد من فروض الكفايات في قول عامة أهل العلم.)
وحكي عن سعيد بن المسيب: أنه من فروض الأعيان؛ لقول الله تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة : 41]، ثم قال: ﴿ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [التوبة: 39]، وقوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 216]. وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: “من مات ولم يَغْزُ، ولم يُحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق”. رواه أبو داود.
ورد ابن قدامة على هذا القول بقول الله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء: 95]. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم. وقال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 122]. ولأن رسول الله ﷺ له كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه.
فأما الآية التي احتجوا بها: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: 41]، فقد قال ابن عباس: نسخها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً﴾، رواه الأثرم وأبو داود.
ويحتمل أنه أراد: حين استنفرهم النبي ﷺ إلى غزوة تبوك، وكانت إجابته إلى ذلك واجبة عليهم، ولذلك هجر النبي ﷺ كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا، حتى تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على من استنفره الإمام؛ لقول النبي ﷺ: “إذا استنفرتم فانفروا”. متفق عليه) انتهى.
وما قاله الإمام ابن قدامة هو الصحيح، فإن الآية التي استدلوا بها جاءت في سياق استنفار رسول الله لهم، وذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾ [التوبة : 38]، وعند استنفار الإمام لفرد أو جماعة يصبح الجهاد فرض عين عليهم بالإجماع.” انتهى.
ونستطيع أن نلخص ما نقله الشيخ يوسف القرضاوي عن ابن رشد الجد وجمهور الفقهاء والقرافي وابن قدامة في النقاط التالية:
1-الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الآخرين.
2-الإمام ذو الشوكة هو الذي يجب عليه القيام بكل ما يتطلبه الجهاد التالي من إعداد وعُدد وخطط ومراقبة العدو، وهو الذي يعلن الحرب، ويبرم الهدنة والصلح، ويوقع اتفاقيات السلام، وهو الذي يقود “جهاد الطلب” و”جهاد الدفع”.
3-إذا استنفر الإمام فردًا أو جماعة يصبح الجهاد فرض عين عليهم.
فطالما أننا لا نستطيع أن نستوعب واقع المقاومة بتأطيرها ضمن اجتهاد “جهاد الطلب” أو “جهاد الدفع” لتخلف وجود “الإمام المسلم والدولة المسلمة” لذلك يجب أن نبحث عن “اجهاد آخر” يستوعب واقع المقاومة في غزة، دون أن نربط هذا “بالدولة المسلمة والإمام المسلم”، وبخاصة إن ربط مشروعية الجهاد بوجود “الإمام المسلم والدولة المسلمة” جعل حزب التحرير يقع في خطأ اعتبار العمل الجهادي ضد الصهاينة غير مشروع قبل قيام “الدولة المسلمة والإمام المسلم” وبذلك عطّل الجهاد ضد الصهاينة عند فريق كبير من أبناء الأمة، والآن سنذهب إلى معالم الاجتهاد الجديد.
منذ أن هاجر الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة، فقد قام كيان الإسلام على مدار التاريخ على ثلاثة أعمدة: “الفرد المسلم”، “الأمة المسلمة”، “الدولة المسلمة”، ولقد سقط العمود الثالث “الدولة المسلمة والإمام المسلم” في عام 1924م، وبقي العمودان الآخران: “الفرد المسلم”، و”الأمة المسلمة”، لذلك فعلينا الانطلاق من هذا الواقع الجديد لإصدار أحكام جديدة، قطعًا من خلال العودة إلى الشريعة الإسلامية التي سنأخذ منها أحكامنا، ومن خلال الاستفادة من التراث الفقهي الذي تركه أسلافنا.
إذن هناك عمودان ما زالا قائمين، هما: الفرد المسلم، والأمة المسلمة، ولا شك أن هذه “الأمة المسلمة” مرتبطة بعلمائها الذين يقودونها في غياب الإمام والحاكم المسلم، كما ذكر الجويني في كتاب “غياث الأمم في التياث الظلم”، وكما وقع عمليا في التاريخ عندما قاد ابن تيمية جيش المسلمين للدفاع عن دمشق في معركة شقحب في مواجهة التتار والمغول وانتصر عليهم.
والآن نعود إلى واقع غزة، فنقول: إن واجب العلماء أن يقودوا الأمة في غزة خاصة وفلسطين عامة، ويقاتلوا العدو الصهيوني لأنه اغتصب أرضهم، وسلب أموالهم، وهتك أعراضهم، ودنس مقدساتهم، إلخ… وما زال متطلعًا إلى تهجيرهم، واستلاب ما تبقى من أراض في أيديهم، إلخ…
نستطيع أمام هذه الحقائق أن نقرر بأن القتال مشروع في غزة، وأن المقاومة سليمة في غزة، ويعضد ذلك الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة فقد قال تعالى: ((الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) (البقرة، (194).
وقد قال الرسول ﷺ: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» (رواه علي بن أبي طالب في حلية الأولياء). وقال الرسول ﷺ كذلك: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهِيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فهو شَهِيدٌ» رواه الترمذي وأبو داود والنسائي. وقال ﷺ أيضًا: «قاتل دون مالك حتى تحوز مالك، أوْ تُقْتَلَ فَتَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الآخرة» صحيح الجامع.
من المؤكد أن انطلاقنا من الواقع الجديد (وهو وجود الفرد المسلم والأمة المسلمة) في إصدار الأحكام الشرعية يجعلنا نستوعب التاريخ الجاري في فلسطين والذي بدأ مع الاحتلال الإنجليزي لفلسطين عام 1917م إلى تاريخنا هذا، والذي احتوى عشرات الآلاف من الشهداء، واحتوى عشرات المذابح، واحتوى عدة حروب كبيرة شاركت فيها دول عربية، ووقعت عدة إعدامات لشخصيات فلسطينية، ووقعت عدة ثورات واضرابات حول البراق والمسجد الأقصى، إلخ…
ومن أجل أن نوضح هذا التاريخ الجهادي، ونقدر على تصنيفه وتأطيره، وتصبح لدينا القدرة على النظر في مشروعيته، سأقسم التاريخ الممتد من 1917 إلى 2024 إلى عدة مراحل:
المرحلة الأولى وهي 1917-1949:
لقد قامت في هذه المرحلة حركتان جهاديتان بقيادة كل من الشيخ عز الدين القسام والحاج أمين الحسيني رحمهما الله، فأسس القسام “حركة الجهادية”، وهي التي قامت بأعمال قتالية ضد الإنجليز والصهاينة، وقتلت الآلاف من اليهود والإنجليز واستشهد الآلاف من أهل فلسطين تحت قيادتها.
وقد أسس الحاج أمين الحسيني عدة حركات سياسية لتقود العمل السياسي في فلسطين وكان آخرها “الهيئة العربية العليا لفلسطين”، ثم التقت الحركتان قبيل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وقادهما الحاج أمين الحسيني.
ثم أعلن الانتداب الإنجليزي أنه سينسحب من فلسطين في 15 أيار 1948م فاشتعلت المعارك بين الفلسطينيين والصهاينة في نهاية عام 1947م، وقد تنظم الفلسطينيون ضمن عدة حركات جهادية منها “حركة الجهاد المقدس” بقيادة عبد القادر الحسيني، ثم دخلت الجيوش العربية فلسطين لمقاومة الصهاينة في 15/ أيار / 1948م، وكانت سبعة جيوش عربية، وانتهت المعارك بقيام دولة يهودية أعلنها بن غوريون في 15/ آيار / 1948م وتم إلحاق الضفة الغربية بالأردن، وضم غزة إلى مصر.
لقد استشهد في هذه الفترة آلاف الشهداء، ووقعت آلاف المعارك، وهذه المعارك وقعت دون إمام ودون دولة، ولا يمكن أن نصنفها ضمن “جهاد الطلب” أو “جهاد الدفع”، لكن أن نصنفها ضمن جهاد “الفرد المسلم” و”الأمة المسلمة”، فالفرد المرتبط بالإسلام وبقيم الجهاد والاستشهاد وبالفوز بالجنة ونعيم الآخرة ، هو الذي جعله يصمد في المعارك الواقعة مع الصهاينة ويقتل منهم ويُقتل أو يُجرح، وهؤلاء الأفراد الذين يتصفون بتلك الصفات هم عماد معظم الجيوش العربية سواء أكانت قيادتها علمانية أم وطنية أو غير ذلك، وهؤلاء هم الذين خاضوا القتال مع اليهود في الجيوش العربية السبعة التي دخلت فلسطين في 15/أيار/1948م لذلك نعتبره جهادًا مشروعًا لأنه تعبير عن “الفرد المسلم” وإن لم يكن مرتبطًا بـ “الإمام المسلم والدولة المسلمة”، أما الجماعتان اللتان أسسهما كل من الشيخ عز الدين القسام والحاج أمين الحسيني ثم أصبحتا جماعة واحدة قبيل الحرب العالمية الثانية فيمكن أن نعتبر جهادها تعبيرًا عن “الأمة المسلمة” وتمثيلًا لها، لذلك كان جهادها “جهادًا مشروعًا” وإن لم يكن مرتبطًا بـ “الإمام المسلم والدولة المسلمة”.
المرحلة الثانية 1949-1987:
وشهدت هذه المرحلة أمرين، وهما:
1-القيام بأعمال فدائية تحت رايات وقيادات وطنية أو علمانية، وغابت الجماعات الإسلامية في هذه المرحلة.
2- قيام ثلاثة حروب مرتبطة في بفلسطين وهي: الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956م وحرب الأيام الستة عام 1967م وحرب تشرين عام 1973م.
صحيح أن كل الأعمال الفدائية التي قامت كانت تحت رايات وطنية كتنظيم فتح الذي قاده ياسر عرفات، أو حركات ذات راية علمانية كتنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي قادها جورج حبش.
وقامت حروب طاحنة على مستوى الجيوش العربية مع إسرائيل، وسقط شهداء، وقامت معارك متعددة بين الفدائيين وإسرائيل، وسقط شهداء في كل هذه الحروب، ولا يمكن أن نضع هذه المعارك والشهداء ضمن “جهاد الدفع” أو “جهاد الطلب” لغياب “الإمام المسلم والدولة المسلمة”، ولكن يمكن أن نفسرها بأنها تعبير عن “الفرد المسلم”، لأن “حركة فتح” الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، وهي الجسم الرئيسي للمقاتلين الفدائيين، يمكن أن نقرر أن أكثر المقاتلين فيها كانوا ينطلقون من خلفية إسلامية مرتبطة بمفاهيم القرآن الكريم والسنة المشرفة عن الشهيد والشهادة والفوز بالجنة في الآخرة وقيم التضحية والفداء، ونجد أن معظم قيادات الصف الأول في تنظيم فتح من خلفيات إسلامية، مثل: خالد الحسن، علي الحسن، صلاح خلف (أبو إياد)، رفيق النتشة، خليل الوزير (أبو جهاد)، سليم الزعنون، إلخ.. هؤلاء تحولوا من جماعات إسلامية إلى “حركة فتح” لأسباب خاصة، لا مجال للحديث عنها، إلخ..
لذلك نستطيع أن نقول أن جهاد هؤلاء الأفراد بأنه “جهاد مشروع” ولو أنه لم يستوف شروط “الإمام المسلم والدولة المسلمة”، بل هو تعبير عن “الفرد المسلم” الذي وجد متنفّسًا للجهاد في حركة فتح.
وكذلك ما زالت معظم جنود الجيوش العربية ينطلقون من خلفية إسلامية مرتبطة بمفاهيم القرآن الكريم والسنة المشرفة عن الشهيد والشهادة والفوز بالجنة في الآخرة، وينطبق عليها ما ذكرناه عن مقاتلي “فتح” لذلك أن نستطيع نعتبر أن جهاد هؤلاء الجنود “جهاد مشروع” لأنه تعبير عن “الفرد المسلم” الذي هو أحد أعمدة الكيان الإسلامي.
في هذا الجو السياسي الحانق بعد نكسة عام 1967م لم تستطع الحركة الإسلامية أن تقيم لها جماعة خاصة تحت راية إسلامية، بل اضطرت أن تقيم معسكر الشيوخ، على نهر الأردن تحت غطاء “حركة فتح” وكان أبزر المقاتلين في هذا المعسكر الشيخ عبد الله عزام رحمه الله.
المرحلة الثالثة 1987-2024:
في هذه المرحلة ظهرت حركات المقاومة الإسلامية بشكل واضح وصريح، ومنها حماس، والجهاد الإسلامي، وألوية الناصر صلاح الدين، إلخ..
خاضت المقاومة الإسلامية في غزة معارك مع إسرائيل في 2008 –2011-2013-2024.
ونستطيع أن نعتبر أن كل هذه المعارك مشروعة، ولو أنها تمت في غياب “الإمام المسلم والدولة المسلمة” ولا يمكن أن نخضعها لمفهوم “جهاد الطلب” أو “جهاد الدفع” لغياب “الإمام المسلم والدولة المسلمة” وفي غياب هذا العمود الرئيسي من أعمدة الكيان الإسلامي، سنفعل العمودين الرئيسيين الآخرين، هما: “الفرد المسلم”، الأمة المسلمة”، فنقول إن هذا الجهاد الذي قامت به المقاومة الإسلامية منذ 1987 هو مرتبط بـ “الفرد المسلم” و”الأمة المسلمة” وتعبير عنهما، لذلك كان جهادًا شرعيًا، ونعتبر أن كل الدعوات التي تنادي بعدم مشروعية ذلك القتال أصدرت حكمًا خاطئًا لأنها ربطت أفعالها بالعمود المفقود ولم تربطه بالعمودين الباقيين وهما: “الفرد المسلم”، الأمة المسلمة”، وهو ما نحتاج إليه في اجتهادنا الجديد.
والسؤال الآن: من أين جاء هذا القصور والنقص والخلل في جهاد المقاومة في غزة؟
جاءها النقص والقصور والخلل من أمرين، هما:
1-دولة المقاومة ليست كاملة السيادة:
اعتبرت المقاومة نفسها دولة مع أنها ليست كاملة السيادة على غزة، وتعاملت مع جمهورها بأنها دولة، والحقيقة إن هذه الخطأ الذي وقعت فيه ناتج من أخطاء سابقة وقعت فيها، وهي دخولها الانتخابات عام 2006 تحت سقف أوسلو، وحيازتها الأغلبية في البرلمان وقبولها بأن ترأس الوزارة وتديرها، مع أنها ذات سلطة ناقصة وسيادة غير كاملة، فهي مقيدة بعشرات الاتفاقات مع العدو الصهيوني، في الدخول والخروج، ولا تمتلك الحرية الكاملة في التعامل مع محيطها، ولا في اتخاذ قراراتها السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، إلخ .. وجل ذلك مرتبط بالعدو الصهيوني.
2-التحالف مع إيران:
لقد أقامت المقاومة تحالفًا مع إيران، فقد ثبت أن هذا التحالف لم يكن في المستوى المطلوب، ولم تقم إيران بما يجب عليها كدولة نحو المقاومة، فهي لم تطلق إلا رشقتين بالصواريخ والمسيرات، مع أنها تملك ترسانة عسكرية كبيرة، نعتبرها أكبر ترسانة عسكرية بعد إسرائيل في الشرق الأوسط.
صحيح أنها تركت حزب الله والحوثيين وبعض الفصائل العراقية تشارك في القتال، لكن هذا لا يعفي إيران من المسؤولية، فهي رأس التحالف والتي أنشأته، فقد ثبت أنها تستخدم هذه الحركات كأدوات في تحقيق نفوذ وتوسع في الشرق الأوسط، وبالتالي ثبت أنها تستخدم القضية الفلسطينية كورقة تتاجر بها وهذا ما يجب أن يجعلنا نرفضها ونرفض التحالف معها، لأنه لم يحقق أدنى واجبات التحالف، بل هو خيانة واضحة لفلسطين وأهل فلسطين.
الخلاصة: إن جميع أمور الجهاد إعدادًا وعدة ومراقبة الأعداء وشن المعارك وإبرام معاهدات الصلح والسلم، والقيام بواجبات “جهاد الطلب” و”جهاد الدفع”، وإعلان النفير، إلخ.. من واجبات “الإمام المسلم والدولة المسلمة”.
وفي دراسة للواقع الجديد نجد أنه يقوم على عمودين هما: “الفرد المسلم” و”الأمة المسلمة”، وقد غاب “الإمام المسلم و”الدولة المسلمة” بسقوط الخلافة العثمانية عام 1904م، لذلك علينا الانطلاق من هذا الواقع من أجل بناء اجتهاد جديد.
بعد احتلال الإنجليز لفلسطين عام 1917م، نشأت عدة حركات جهادية أو قامت عدة حروب في فلسطين وحولها، وكان معظم المقاتلين الذي قاتلوا في الجيوش العربية في حروب 1948، 1956، 1967، 1973، أو قاتلوا في حركات فدائية وطنية فقد كانوا ينطلقون من قيم إسلامية، تعلي شأن الشهيد والشهادة، وتجعل الفرد المسلم المقاتل يتطلع إلى الفوز بالشهادة ليدخل الجنة، ويفوز بنعيم الآخرة الذي لا يقارن بأي نعيم في الدنيا، هذه هي القيم التي كانت تحرك معظم الجيوش العربية التي خاضت قتالًا في فلسطين، أو خاضت قتالاً وهي متنسبة إلى حركات فدائية ذات خلفية وطنية، وكانت هذه القيم متحققة بشكل أكيد في الجماعات الجهادية على مستوى الأفراد أم على مستوى القيادة أو مستوى المنهج، وجميع تلك القوى أوقعت النكاية بالعدو الصهيوني وبالعدو الإنجليزي، لذلك كان قتالها مشروعًا ولأنه صار تعبيرًا عن “الفرد المسلم” و”الأمة المسلمة”.
من الواضح أننا بهذا الاجتهاد الجديد غطينا كل الأعمال القتالية التي نكلت بالعدو الصهيوني والإنجليزي سواء أكانت من أفراد مسلمين أو من جماعات مسلمة، واعتبرناها شرعية مع غياب “الإمام المسلم والدولة المسلمة” لأن أخطر ما في المواجهة مع العدو هو التشكيك في شرعية قتاله ومجاهدته.
اترك رد