يصف كتاب كثيرون تاريخنا بأنه تاريخ استبداد وإذا أرادوا أن يكونوا كرماء حسب زعمهم فإنهم يستثنون منه فترة بسيطة وهي فترة الخلفاء الراشدين وفترات لأسماء أخرى معروفة مثل فترة عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-، وقد اعتبر بعض هؤلاء الكتّاب بأن الاستبداد هو السبب في كل أمراضنا الاجتماعية الأخرى، وهو الذي أفسد حياتنا كلها، وهو السبب الرئيسي في تأخرنا وانحطاطنا، ومما يؤكد ذلك تخصيص كاتب مثل عبد الرحمن الكواكبي كتاباً لذلك المفهوم سماه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” ألّفه عام 1902م.
ومشكلتنا مع أولئك الباحثين أنهم لا يصدرون أحكامهم على تاريخنا انطلاقاً من الدراسات المعمقة والمستقلة لذلك التاريخ، بل يسقطون عليه الأحكام الخاصة بتاريخ الحضارة الغربية من مثل صراع العلم والدين، والانحطاط، ورجال التنوير، والنهضة إلخ. . .
أو يسقطون عليه نظريات غربية خاصة لتحليل التاريخ الغربي كالماركسية فتجد أحكاماً من مثل طبقة البروليتاريا، وطبقة البورجوازية، والصراع الطبقي، وديكتاتورية البروليتاريا إلخ. . .
فتكون النتيجة ظلم تاريخنا وظلم الحقيقة وظلم تلك المصطلحات والأحكام. وفي مجال حديثنا عن الاستبداد تصبح الديمقراطية الغربية هو النموذج البديل المطلوب، فإن لم تكن موجودة بكل تفصيلاتها الحالية من أحزاب وانتخابات وبرلمان ووزارة مسؤولة أمام البرلمان إلخ. . . جرى الحكم على تاريخ الأمة بنقيض ذلك وهو الاستبداد، وطالما أننا نتحدث عن الديمقراطية نتساءل: ما الذي تستهدفه الديمقراطية وغيرها من أنظمة الحكم السياسي؟ الجواب: إقامة العدل، وتحقيق المساواة، وإعطاء الفرص لجميع أبناء الأمة في تبادل الرأي حول شؤونها، وإعطائهم الفرصة كذلك للمساهمة في حلّ قضاياها إلخ. . .، وهذه الأهداف يمكن أن تتحقق بآليات متعددة، وليست مقصورة على الآليات التي صاغها النظام الديمقراطي. لذلك فإن تاريخنا السياسي قد ظلم –في تقديري- من ثلاث نواح:
الأولى: إسقاط كثير من الأحكام الخاصة بالحضارة الغربية عليه.
الثانية: عدم دراسة مسيرته السياسية بشكل مستقل.
الثالثة: جعل النموذج الغربي الحالي هو الذي تُقوّم على أساسه حضارتنا وتاريخنا في الاقتصاد والاجتماع والسياسة إلخ. . .
والآن لنر: من أين جاء مفهوم الاستبداد؟ وهل يمكن تطبيقه على تاريخنا؟ وكيف جرى الحكم في تاريخنا؟ وما أبرز آلياته؟
جاء مفهوم الاستبداد من النظام الإقطاعي الغربي في العصور الوسطى حيث كان يملك الإقطاعي فيه الأرض ومن عليها من بشر وحيوان ونبات وشجر، ويتحكم فيهم حسب أهوائه ومزاجه وحسب ما يروق له دون وجود لقانون يرسم أفقاً أو حداً لتصرفاته وأعماله، لذلك عندما جاءت الثورات التي انبثقت عن المرحلة البرجوازية وحملت معها الدستور، اعتبرت هذه الوثيقة (الدستور) التي تحدّد بعض جوانب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتبيّن واجبات الحاكم والمحكوم وحقوقهما، اعتبرت نهاية لعهد الاستبداد لأنها انتقلت في العلاقة بين الحاكم والمحكوم من العلاقة غير المحددة بأية قواعد أو ضوابط إلى العلاقة المحددة ببعض القواعد والضوابط، ولكن هذه الخاصية كانت موجودة منذ اللحظة الأولى في تاريخنا حيث كان القرآن الكريم دستوراً لأمتنا لم يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم فحسب، بل فصّل علاقة الحاكم بالمحكوم وبيّن واجبات الحاكم، من مثل:
وجوب الشورى، وإقامة الصلاة، وجباية الزكاة وتوزيعها في مصارفها المحدّدة، ونشر الدين، وتحديد العقوبات التي يمكن أن يوقعها الحاكم على المحكومين من مثل: حد السرقة، وحد الزنا، وحد الحرابة، وحد شرب المسكرات إلخ. . . وبيّن واجبات المحكوم من مثل: الطاعة طالما أن الحاكم مطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والنصح للحاكم، ودفع الزكاة، والاستجابة لداعي الجهاد إلخ. . . إذن هذه التحديدات التي شرعها الإسلام في مجالات الحاكم والمحكوم وفي العلاقة بينهما وفي علاقتهما بالآخرين أزالت سبباً رئيسياً من أسباب الاستبداد، والآن لنر: كيف كانت علاقة الحاكم بالمحكوم والراعي بالرعية على مدار القرون السابقة؟
لقد أنشأ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية، وقامت علاقته مع رعيته صلى الله عليه وسلم على العدل والمساواة والشورى والرحمة والرأفة والحكمة والعلم إلخ. . . وكانت نموذجاً للعلاقة المثالية بين الحاكم والمحكوم ولن نفصّل في صورتها وحيثيّاتها لأن خصومنا أو مجادلينا قد يحتجون بأنه لا مجال للمحاججة بخصوص علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحابة لأنه نبي تسدّد السماء علاقته برعيته، وينـزل عليه جبريل بالحق بخصوصها، وأما الخلفاء الراشدون فيسلّم معظم الدارسين بأن العلاقة بينهم وبين رعيتهم كانت سليمة ومشرقة وإيجابية وقريبة من صورة علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بصحابته رضي الله عنهم وحققت العدل والمساواة والشورى والرحمة إلخ. . .
لذلك لن نخوض في تفاصيلها طالما أنها ليست مجال اختلاف، لكن العصور التالية هي مجال الاتهام بالاستبداد، ونحن من أجل تقرير وجهة نظر صائبة في هذا الموضوع
فذلك يحتاج إلى دراسات متعددة نسأل الله العون على تدوينها في أيام قادمه، لكن يكفي في هذا المقال إعطاء مؤشرات عن اتجاه الحكم وعن مدى سلامة علاقة الحاكم بالمحكوم في ذلك التاريخ الطويل، وهو ما سنجتهد أن نقوم به.
تميزت فترة الخلافة الراشدة بأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا أمراء الأمة وعلماءها في الوقت نفسه، لكن العهد الأموي شهد ظهور قيادتين للأمة هما: قيادة الأمراء وقيادة العلماء، ثم استمرار الأمر على هذه المنوال في العهود التالية: العباسية، والمملوكية، والعثمانية، وقد كانت قيادة الأمراء تأخذ شرعيتها من التزامها بالشريعة الإسلامية، وهذا ما يمكن أن نعتبره أول عامل ينفي عنها صفة الاستبداد -كما وضحنا ذلك في بداية الحديث- لأنه كان يحدّد علاقتها برعيتها، ويوضح واجبات وحقوق الطرفين: الراعي والرعية، كما أنها (أي قيادة الأمراء) لم تكن تنفرد بقيادة جماهير المسلمين، بل كانت قيادة العلماء تشاركها في هذه القيادة من جهة، وتحاسبها على كثير من تصرفاتها من جهة ثانية مما يقلل من حجم ظلمها وفرصه، ولا أريد أن أعدد أسماء العلماء الذين ساهموا في قيادة المسلمين على مدار التاريخ الماضي أو أعدد المواقف التي تشير إلى محاسبتهم الأمراء، فالتاريخ مملوء بشواهد تدل على الأمرين السابقين، والأمر أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى تعداد أو تدليل، ويكفي أن نذكر اسمين هما العز بن عبد السلام وابن تيمية ودورهما في تحريك الأحداث وتوجيهها في عصرهما.
ومما تجدر الإشارة إليه أن قيادة العلماء لم تبق في صورة أشخاص إنما تحوّلت إلى أشبه ما يكون بالمؤسسة مع مرور الزمن فأصبحت هذه القيادة تحتوي عدة وظائف في العهد العثماني، منها: شيخ الإسلام الذي كان يسكن عاصمة الخلافة استامبول، ويأتي ترتيبه الثاني في البروتوكول الرسمي بعد الخليفة وقبل الصدر الأعظم الذي هو رئيس الوزراء، ومنها أيضاً: القضاة، والفقهاء، ونقباء الأشراف، وخطباء المساجد وأئمتها، والمؤذنون والخدمة، والقرّاء، والوعّاظ إلخ. . . وكان هؤلاء يأخذون رواتبهم من خلال الأوقاف، وكان القضاة يقومون بالإضافة إلى قضائهم في الخصومات الشخصية والتجارية، بتثبيت مشايخ الحرف وفض منازعاتهم، وكان القضاة بمثابة حكام شرعيين للأمة، وكانوا يقومون بدور صلة الوصل بين الوالي والأهالي، فينقلون أحكام الوالي إلى الأهالي، وينقلون رغبات الأهالي وطلباتهم إلى الوالي.
وبالإضافة إلى قيادة العلماء التي نافست الأمراء على نفوذهم عند جماهير المسلمين، وشاركتهم في هذا النفوذ، ومنعت انفرادهم بالسلطة، برزت قيادات مدنية أخرى في المجتمع الإسلامي كانت تؤدي دوراً أخلاقياً أواقتصادياً أو رقابياً أوثقافياً أو اجتماعياً
إلخ. . .، ومن هذه القيادات التي تطورت على مدار التاريخ الإسلامي: التنظيمات الحرفية، والطرق الصوفية، والحسبة، والأوقاف، وسأشير باختصار إلى دور كل منها خلال العهد العثماني لأنه -كما قلت- العهد الأكثر اتهاماً من غيره بالاستبداد.
فمن دراسة الحرف والصناعات نجد أن كل حرفة كانت تختار شيخها المناسب بإرادتها الذاتية المحلية، وكانت سلطة شيخ الطائفة تشمل إدارة شؤون أبناء الطائفة، والاهتمام بمشاكلهم، والإشراف على تنفيذ اتفاقاتهم، والطلب من القاضي تسجيل هذه الاتفاقات، وكان يرفع شكاوى الطائفة على طائفة أخرى إلى القاضي بنفسه، وكان الوالي يتصل بأصحاب الحرفة عن طريقه.
وكان شيخ الحرفة يمارس سلطته اعتماداً على العلاقات التنظيمية والأخوية الصادقة التي كانت تربطه بأبناء الطائفة، فعلى المستوى التقني والتنظيمي يخضع التعليم الحرفي لتراتبية دقيقة بدءاً من المبتدئين إلى الصانع وإلى المعلم. وعلى قاعدة هذه التراتبية لشيخ الحرفة الحق في أن يشدّ بالكار (الصنعة) المبتدئين الماهرين فيصيرون صناعاً أو معلمين. وحفلة الشدّ حفلة ترفيع المبتدئ إلى صانع أو الصانع إلى معلّم، هي حفلة ذات طابع ديني، ويظهر ذلك في قراءة “الفاتحة” والأدعية والأناشيد النبوية التي تتخلّل الحفلة، وإسباغ جو من الورع والتقوى على “المشدود” والحاضرين، والتشديد على “العهد” و”الميثاق” و”الأخوة” أمام الله والجماعة، وكان المشدود يعاهد المعلم على أن يلتزم بقواعد منها: الإتقان، عدم الغش، والتسعيرة العادله، التضامن مع رفاق المهنة إلخ. . .
وكان هناك “شيخ مشايخ الحرف أو شيخ التجار” وكان يعيّن بإجماع التجار ويشترط فيه أن يكون صاحب دين وأخلاق أهلاً للمشيخة لائقاً بها، وأن يختاره ويرضى به كامل التجار، وأن يوافق القاضي والسلطان على تعيينه، وكانت مهمة هذا الشيخ تشمل الإشراف على كل طوائف الحرف ومشايخها، ويقوم بصلة الوصل بين الوالي والقاضي من جهة، وهذه الطوائف من جهة أخرى، ولا يتم أي تغيير إلا بعلمه ورأيه، وكان مشايخ الحرف كلهم يُنتخبون بحضوره ويُزكّون بتزكيته.
لقد نشأت الطرق الصوفية في العهد العباسي، لكنها تغلغلت في كل زوايا المجتمع في العهد العثماني، فقد تداخلت مع التنظيمات الحرفية، كما تداخلت مع الجيش الانكشاري الذي أسس أمجاد الخلافة العثمانية، والذي ارتبط بالطريقة البكتاشية، وقامت الطرق الصوفية بدور تهذيبي، وامتلكت الدور والمدارس والخانات والزوايا إلخ. . . وكانت إحدى الحلقات الفاعلة في حياة المسلمين بعيداً عن قيادة الأمراء.
نشأت الحسبة في مرحلة مبكرة من تاريخ المجتمع الإسلامي، ثم تطوّرت فأصبح يرأسها محتسب ومعه محتسبون معاونون، مهمتهم المحافظة على الآداب والأخلاق والنظافة والحشمة ومنع الغش وعدم الاختلاط . . . وقد كانت تهدف أن تجعل الأخلاق الإسلامية سجية وطبعاً ليبقى المجتمع محافظاً على شخصيته وهويته.
أما الأوقاف فقد شغلت ثلث ثروة العالم الإسلامي وقامت بدور اجتماعي وثقافي واقتصادي، فقد أنشأت المدارس والمكتبات، وأنفقت على العلماء وطلاب العلم، كما كلفت بعض العاملين بنسخ الكتب من أجل إيقافها على طلاب العلم، كما أنشأت الأوقاف المستشفيات التي كانت تعالج الناس مجاناً، كما أنشأت الخانات التي كانت تؤوي الناس على الطرقات، كما أوقفت الدور التي تساعد الفقراء وتؤويهم وتطعمهم إلخ. . .
الخلاصة: لم تعرف أمتنا الاستبداد بالصورة التي عرفها المجتمع الإقطاعي الغربي في العصور الوسطى، ومثّل التزام الأمراء المسلمين بتنفيذ الشريعة الإسلامية الشرط الأول لمنحهم الشرعية من قبل الأمة كما مثل هذا الالتزام نفياً للاستبداد لأنه الوثيقة الدستورية التي اعتبر الغرب وجود مثلها إنهاء للاستبداد في حياته السياسية، وقامت قيادة العلماء بدور القيادة الموازية لقيادة الأمراء على مدار التاريخ الإسلامي مما جعلها تواجه ظلم الأمراء فتقلل من حجمه حيناً، وتبطله حيناً آخر، كما قامت مؤسسات ورابط أخرى من مثل:
المنظمات الحرفية، والطرق الصوفية، والحسبة، والأوقاف، بدور الوسيط بين جماهير المسلمين والقيادة الحاكمة حيناً، وتوسيع هامش الاستقلال في حياتهم حيناً آخر، وإبعادهم عن تدخلات الأمراء حيناً ثالثاً، وفي كل الأحوال قامت تلك المؤسسات والروابط والقيادات بإغناء الجانب المدني والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والرقابي في حياة جماهير المسلمين إغناء فريداً، ورعايته وتوسيع دائرته.