وقّعت عدة فصائل جهادية كبيرة في ساحة العمل الجهادي السوري “ميثاق الشرف الثوري”، وهي: الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وفيلق الشام، وجيش المجاهدين، وألوية الفرقان، والجبهة الإسلامية. وليس هناك شك أن ذلك الميثاق يُعتبر منعطفا كبيرا، ونقلة نوعية في مسيرة التيار الجهادي السوري، وحتى نتلمس أبعاد هذا المنعطف وهذه النقلة النوعية يجب أن نجيب عن ثلاثة أسئلة:
لقد وصل حزب البعث إلى السلطة عام 1963م، ثم قام حافظ الأسد بانقلاب عام 1970م، واستأثر بالسلطة -وحده- دون رفاقه الآخرين في “اللجنة العسكرية”، وقامت الفصائل الإسلامية خلال حكم البعث وحكم آل الأسد بعدة تمردات وانتفاضات وتحركات خلال السنوات الخمسين الماضية.
وكانت ثورة عام 1981 أقواها وأعنفها وأطولها، وشهدت تدمير النظام مدينة حماه عام 1982 عندما أحس بتمردها عليه، كذلك شهدت عدة مجازر أبرزها مجزرة “تدمر” الشهيرة، والتي ذهب ضحيتها مئات الشهداء بالإعدام العشوائي، والتي قام بها رفعت الأسد شقيق رئيس النظام عام 1980.
لكن ثورة عام 1981 فشلت، واستفاد النظام من فشلها في زيادة جبروته وتسلطه على الدولة من جهة، وزيادة قمعه للإسلاميين بشكل خاص والشعب السوري بشكل عام من جهة ثانية، وزيادة تضخيمه للأجهزة الأمنية من جهة ثالثة.
وعندما تحركت الشعوب العربية عام 2011 وأشعلت الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن ضد الحكام المستبدين الفاسدين الذين سلّطوا أسرهم وأولادهم على رقاب العباد، والذين سرقوا خيرات وأموال الدولة، والذين كمموا أفواه الجماهير وكبلوا أيديها بالقيود، كان من الطبيعي أن يتحرك الشعب السوري ضد نظام آل الأسد الذي كان -على الأرجح- أكثر فسادا من كل الأنظمة التي شملها “الربيع العربي”، وكان أكثر استبدادا وظلما للشعب، وأكثر إفقارا له، وربما تميّز بصفتين أخريين أيضا، وهما:
الأولى: امتياز نظام آل الأسد بأنه نظام طائفي، والأرجح أنه النظام الوحيد الذي يقوم على الطائفية في العالم العربي، وقد بنى الدولة جميعها على أساس طائفي، مع أن سوريا لم تعرف الطائفية في العهود السابقة، ومن أجل أن يحقق آل الأسد غرضهم، خطفوا الطائفة العلوية، وأخافوها من الطوائف الأخرى، وأخافوا الطوائف الأخرى منها، وربطوها بمصيرهم، ونشروا الثقافة الطائفية، واضطهدوا الطوائف الأخرى وأذلوها.
الثانية: أن الثقافة التي قام عليها حزب البعث -والتي نشرها في سوريا- تقوم على محاربة الدين، وتعتبره سبب التخلف والركود والانحطاط، وأن النهضة ترتبط بتدمير الدين في عقول وقلوب الشعب واستئصال المتدينين، وهي ثقافة معادية لعموم الشعب السوري. من الواضح أن علاقة الإسلاميين كانت مع النظام الأسدي علاقة مصادمة وقتال وعداء، ولم تهدأ خلال الخمسين سنة الماضية، وكان أشدها في فترة الثمانينيات.
أما السؤال الثاني، وهو عن كيفية تعامل الفصائل الإسلامية مع الثورة، فمن المؤكد أن الظروف الموضوعية التي ولّدها فساد النظام الأسدي واستبداده وطائفيته كانت عاملا أساسيا في ثورة الشعب السوري في 15/03/2011، وقد جاءت الثورة عفوية دون تدبير من أية فئة ودون قيادة رئيسية، وكان التيار الإسلامي والجماهير الإسلامية أكثر فاعلية من غيرها، فكانت المساجد هي المنطلق الرئيسي للمظاهرات السلمية التي شغلت الأشهر الستة الأولى من عمر الثورة، وكان خطباء المساجد هم المحركون الأوائل للمصلين الذين كانوا وقود الثورة.
ثم دخلت الفصائل الإسلامية على خط الثورة لحماية المتظاهرين، كما بدأ انشقاق ضباط وجنود ووحدات من الجيش عن الجيش النظامي السوري، وتشكل الجيش الحر من مجموع الفصائل الإسلامية ومن منسوبي الجيش النظامي، وأصبح الجيش الحر هو الجسم العسكري الذي يواجه الدولة والنظام وآلتهما العسكرية المدمرة.
وطرحت بعض الفصائل الإسلامية استهداف إقامة الدولة الإسلامية من صراعها مع النظام الأسدي، وهو هدف صحيح منهجيا وإسلاميا، لكن فيه قصورا من ناحية عملية، وهي أنه يغفل التجارب السابقة التي أكدت عدم استطاعة وقدرة التيار الإسلامي تغيير النظام خلال نصف قرن الماضي من جهة، وتضخم الأجهزة الأمنية وأدواتها القمعية عند النظام خلال الثلاثين سنة الماضية وخاصة بعد فشل ثورة 1981 الإسلامية من جهة ثانية.
أما بالنسبة للسؤال الثالث، فإن “ميثاق الشرف الثوري” أضاف أمرين مهمين هما: الدعوة إلى إقامة دولة “العدل والقانون والحريات”، “والترحيب بالتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية”، وقد وردت تلك الدعوة وذلك الترحيب في بندين من الميثاق هما البند السابع والبند الرابع من “ميثاق الشرف الثوري”، حيث جاء في البند السابع: “يهدف الشعب السوري إلى إقامة دولة العدل والقانون والحريات بمعزل عن الضغوط والإملاءات”، وجاء في البند الرابع: “العمل على إسقاط النظام عملية تشاركية بين مختلف القوى الثورية، وانطلاقا من وعي هذه القوى للبعد الإقليمي والدولي للأزمة السورية، فإننا نرحب باللقاء والتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية المتضامنة مع محنة الشعب السوري بما يخدم مصالح الثورة”.
لقد تضمن هذان البندان طرحا سليما، وهو نقلة نوعية في مسيرة عمل التيار الإسلامي الجهادي، لأنه راعى أمرين معتبرين شرعا، كان مغفلا لهما في السابق وهما:
الأول: لقد أغفل التيار الإسلامي الجهادي منذ بداية الثورة -وخلال السنوات الثلاث من عمر الثورة السورية- عدم استطاعة وقدرة الإسلاميين وحدهم على إزاحة النظام المجرم عن سدة الحكم، وهي الحقيقة التي قرّرها تاريخ الصراع مع النظام الأسدي خلال الأربعين سنة الماضية، وهي الحقيقة التي أعطاها الشرع اعتبارها وقررها الفقهاء شرطا في الخروج على الحاكم، والتي تنبهت لها الفصائل الإسلامية في بيانها الأخير وهو “ميثاق الشرف الثوري”، وأعطتها قيمتها من أجل فتح النافذة للتعاون مع الآخرين غير الإسلاميين، والاستفادة من قدراتهم في بناء “استطاعة وقدرة مشتركة” من أجل إسقاط النظام الذي دمّر الحجر والشجر والبشر، والذي في إزاحته مصلحة للطرفين: الإسلامي وغير الإسلامي.
الثاني: أغفل التيار الإسلامي الجهادي خلال السنوات الثلاث السابقة من عمر الثورة رؤية التغييرات السياسية التي هبت على المنطقة والتي شملت دول “الربيع العربي”، والتي تتلخص في وجود رغبة دولية وإقليمية في تغيير بعض الأنظمة القائمة ومن ضمنها النظام الأسدي في سوريا، والتي تتفق مع رغبة التيار الإسلامي، لذلك لم يستفد منها، وجاء “الميثاق الثوري” بين بعض فصائل التيار الإسلامي الجهادي ليفتح النافذة -مرة أخرى- للاستفادة من هذه الرغبة الدولية والإقليمية، ويرحب بالتعاون مع الآخرين لتجميع الجهود من أجل إسقاط النظام المجرم.
ومما يجدر السؤال عنه هو: لماذا لم تحصل هذه النقلة النوعية في مسيرة التيار الإسلامي الجهادي منذ بداية الثورة قبل ثلاث سنوات؟ أعتقد أن هناك سببين:
الأول: القصور في الوعي السياسي عند التيار الجهادي للواقع، لذلك لم يدرك ملامح التغيير في السياسة الدولية والإقليمية والتي حملت الرغبة في تغيير بعض الأنظمة لمصالح ورؤية وحسابات مرتبطة بها بالدرجة الأولى، والتي كان عليه ألا يتأخر في الاستفادة منها.
الثاني: القصور في القدرة على الربط الصحيح بين النصوص الشرعية والواقع، والقصور في القدرة على إنزال هذه النصوص والأحكام على الواقع إنزالا محكما وسديدا.
ومما يحسن التساؤل عنه هو: ما النقطة الأهم التي كان يجب أن يبرزها التيار الجهادي في “ميثاق الشرف الثوري” ويؤكد عليها بشكل أكبر؟ إن النقطة الأهم التي كان يجب أن يبرزها هي “قيمة الحرية” و”حرية الإسلاميين”، بمعنى إعطاء الإسلاميين الحرية في الدعوة إلى مبادئ دينهم وأخلاقه ومُثُله، وهم الذين حُرموا منها لمدة خمسة عقود سابقة، وحاجة الإسلاميين إليها مثل غيرهم أو أكثر، وهو قريب من المعنى الذي طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش وهو “التخلية بينه وبين الناس”، حين قصد مكة معتمرا ووقّع “صلح الحديبية”، فقال حين منعته قريش من الاعتمار: “يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر الناس؟” (رواه أحمد).
الخلاصة: لقد نقل “ميثاق الشرف الثوري” التيار الإسلامي الجهادي نقلة في الاتجاه الصحيح من أجل إسقاط النظام، وتخليص الشعب السوري من هذا النظام المجرم، لأنه فتح الباب للتعاون مع الآخرين بعد أن وعى الواقع، وأنزل النصوص الشرعية منازلها الصحيحة.
رابط المقال من الجزيرة نت “ميثاق الشرف” نقلة نوعية في مسيرة التيار الجهادي