هل تجنبت أمتنا منزلقات الأمم السابقة؟

هل تجنبت أمتنا منزلقات الأمم السابقة؟

التوحيد

كان التوحيد أبرز حقيقة دعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أثار استغراب المشركين واستنكارهم لذلك قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عُجاب) (ص،5).

وتذكر الروايات أنه لما نزلت آية (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) (البقرة،168).

تساءل المشركون: كيف يسع الناس إله واحد؟

فأنـزل الله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنـزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها بث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (البقرة،164).

وبيّن الله لهم في هذه الآية أن هذه الظواهر الكونية على اختلافها وتنوعها وكثرتها لا تناقض بينها ولا تصادم مما يدل على الله الواحد الأحد الذي يجمع بينها ويصرّفها ويسيّرها.

وهذا يحتاج إلى تدبر وتعقل، ويحتاج إلى قوم يستخدمون عقولهم استخداماً صحيحاً وسليماً.

عرض حقيقة التوحيد

واستكملت المصادر الإسلامية من قرآن وسنة عرض حقيقة التوحيد، ففصلت الحديث عن صفات الله وأسمائه وأفعاله، ومَن الذين يحبهم الله ومَن الذين يبغضهم الله، وكيف يمكن للعبد أن يستجلب رضوان الله تعالى، وكيف يمكن أن يتجنب غضبه سبحانه وتعالى إلخ…

كما وضّحت – تلك المصادر – بشكل جليّ أن العلاقة بين الإنسان وبين الله هي علاقة عبودية وليست شيئاً غير ذلك.

قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز) (فاطر،15-17).

وإذا أراد الإنسان أن يحوز على رضا الله فعليه أن يعبّد ذاته إلى الله.

قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) (الإسراء،23).

وقال أيضاً: (ألر. كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير. ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير) (هود،1-2).

وقال تعالى أيضاً: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) (الرعد،36).

وقد حقق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العبودية خير تحقيق، لذلك نعته القرآن الكريم في رحلة الإسراء والمعراج بـ “عبده” فقال تعالى:(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) (الإسراء،1).

وعندما يعبّد الإنسان ذاته لله تعالى يكون منسجماً مع الكون المحيط به, إذ تعبد المخلوقات الموجودة فيه الله، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه  العبادة بالتسبيح.

فقال تعالى: (تسبّح له السماواتُ السبعُ والأرض ومن فيهن، وإنْ من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (الإسراء،44).

وعبّر القرآن الكريم عن هذه العبادة بالسجود أيضاً.

فقال تعالى: (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال) (الرعد،15).

كما عبّر القرآن الكريم عن ذلك باستسلام المخلوقات طوعاً وكرهاً فقال تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً) (آل عمران،83).

كما بيّن القرآن الكريم خضوع السماء والأرض لله وطاعتهما له.

فقال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) (فصّلت،11).

كما وضّح القرآن الكريم خضوع المخلوقات غير العاقلة لله تعالى.

فقال تعالى: (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) (النحل،49).

ووضّح القرآن الكريم أن الدعوة إلى التوحيد كانت رسالة الأنبياء السابقين إلى أممهم.

فقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل،36).

ألغى الإسلام الواسطة بين الله وبين عباده لذلك دعا القرآن الكريم العباد إلى دعاء الله مباشرة دون واسطة.

قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) (البقرة،186).

كما أمر الله العباد بدعائه سبحانه وتعالى

فقال: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر،60).

لذلك نعى القرآن الكريم على المشركين توسيطهم الأصنام إلى الله مع ادعائهم عدم عبادتهم لها فقال: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر،3).

لذلك رفض وجود طبقة لرجال الدين، ويكون بذلك قد منع أية جهة أو شخص من ممارسة دور بين العبد وربّه.

ولما كان التوحيد هو الأصل الأبرز الذي دعا إليه الإسلام كان الشرك هو الذنب الأبرز الذي حذّر منه فقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء،116).

الشرك

وبيّن عدم استقامة دعوى الشرك، ومثّل على ذلك باستحالة انتظام الكون في حال وجود أكثر من إله فقال تعالى:

(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (الأنبياء،22).

وقال أيضاً: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) (المؤمنون،91).

التجارب التاريخية للأمم السابقة

لم يكتف الإسلام بالدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، بل دعم ذلك بعرض التجارب التاريخية للأمم السابقة، فبيّن أبرز الأخطاء التي وقعت فيها، وكانت المسيحية أقربها عهداً ومكاناً بالمسلمين.

لذلك نعى القرآن الكريم على النصارى غلوّهم في المسيح عليه السلام وتأليههم إياه فقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم) (المائدة،73).

وقال أيضاً: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) (المائدة،17).

وبيّن أن تأليه المسيح عليه ناتج عن اتباع ضلالات قديمة فقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) (المائدة،77).

ثم لفت القرآن الكريم الأنظار إلى تناول عيسى وأمه الطعام فقال تعالى: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمّه صدّيقة كانا يأكلان الطعام) (المائدة،75).

وقد ذكرت آيات متعددة أن المسيح وصف نفسه بعبد الله سواء عند ولادته أو في كبره، قال تعالى: (فال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) (مريم،30).

وسينفي يوم القيامة أن يكون قد طلب من الناس أن يتخذاه وأمّه إلهين من دون الله،قال تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك وأنت علام الغيوب)

(المائدة،116).

وقد أجرى القرآن الكريم ذلك النقد الواسع من مختلف الجوانب لمقولة حلول الله في المسيح لكي يحصّن الأمة الإسلامية من أن تقع في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه الأمم السابقة.

والسؤال الذي يرد الآن: هل استطاعت الأمة الإسلامية أن تتجنب المنـزلقين السابقين اللذين وقعت فيهما الأمم السابقة وهما:

  • فكرة حلول الله في العبد أو الكون
  • عدم توسيط أحد بين العبد وبين الله

التصوف

يجد الدارس لمسيرة الأمة الإسلامية انتشار التصوف بشكل كبير في مختلف مناطقها، ويجد ترويج التصوف لهاتين الفكرتين، فقد استهدف التصوف من المجاهدات الكثيرة التي يؤديها المتصوف إلى أن تجعل العبد يتّحد بالله أو أن تجعل الله يحل بالعبد أو أن يكتشف المتصوف وحدة الوجود.

وقام مشايخ التصوف بدور الواسطة بين العبد وربّه إذ ألزموا المتصوف باتباع الشيخ، ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان، وألزموه بالاستسلام له كما يكون الميت بين يدي المغسّل، وعظموا مشايخهم واعتقدوا أن لهم تأثيراً في الأسباب، وأقاموا عليهم الأضرحة والمشاهد، واتخذوهم واسطة إلى دعاء الله.

ترويج المنزلقات

فما السبب الذي جعل هذه الأمور تروج في الأمة الإسلامية مع كل الحقائق التي أبرزها الدين الإسلامي حول مبادئ العلاقة بين المسلم والله وأنها علاقة عبودية وحول عدم قبول أية واسطة بين العبد وبين الله؟

السبب في ذلك عدة أمور:

الأول: اتباع التصوف أسلوب الإسرار، وإخفاء الجوانب المتعلقة بحلول الله في العبد، وعدم الإعلان عنها في عرضه لآرائه وأهدافه وحقيقة وجهات نظره، وأحلّوا دم من أباح هذه الأسرار.

الثاني: الجفاف الذي عرفته كتب العقيدة المتأخرة في قواعد العقيدة الإسلامية من مثل شرح العقائد النسفية للتفتازاني، وشرح جوهرة التوحيد للباجوري، وشرح العقائد العضدية إلخ…

فركزت تلك الكتب على الجوانب العقلية في العقيدة وعلى الرد على الفرق الأخرى دون إبراز الجانب المعنوي والنفسي في العقيدة والذي يتحدث عن حب الله والخوف منه وتعظيمه إلخ…

الثالث: إغفال كتب العقائد المتأخرة الحديث عن الشرك وصوره وأنواعه.

فلو تصفحنا أي كتاب فيها لا نجد فيها شيئاً من ذلك مع أن القرآن عندما دعا إلى التوحيد حذّر من الشرك بنفس المقدار.

الرابع: اقتصار كتب الفقه على صورة العبادة وإطارها من ركوع وسجود وقيام وقراءة إلخ…

دون الحديث عن الجوانب النفسية والمعنوية فيها من مثل الاطمئنان والخشوع والتعظيم والرجاء والإخبات إلخ…

أدرك الغزالي هذا النقص في ساحة العقائد والفقه فملأه بكتاب “إحياء علوم الدين“، ولكن ملأه لصالح التصوف، لذلك كان الكتاب المذكور سابقاً أكثر الكتب رواجاً خلال القرون السابقة لأنه عالج وجعاً، وسد فراغاً.

اترك رد