تفكيك البنية الثقافية هدف أمريكا الحقيقي من الديمقراطية
بنى الرسول صلى الله عليه وسلم نواة الأمّة الإسلامية في المدينة من الأنصار والمهاجرين الذين آمنوا بدعوته، واستسلموا لقيادته صلى الله عليه وسلم، ثم استمرّت هذه الأمّة على مدى القرون التالية حاملة للقرآن الكريم، مطبّقة لأحكام آياته، مقتدية بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تعرّضت خلال مسيرتها لمصاعب وتحدّيات من أبرزها: الثورات الباطنية ومن أبرزها ثورة الزنج، والهجوم التتري الذي أسقط الخلافة في بغداد عام 656ﻫ، والهجوم الصليبي الذي استهدف قلب العالم الإسلامي والذي احتلّ في غزوته الأولى معظم بلاد الشام إلخ… لكن الأمّة استطاعت أن تتغلّب على هذه المصاعب والتحدّيات وغيرها بفضل حيويّتها، وصحّة منهجها.
لكنّ نشوء الطبقة البرجوازية في أوروبا، وارتباطها بالنهضة الصناعية، وتوجّهها الاستعماري جعلها تصطدم مرّة ثانية مع الأمّة الإسلامية، فاستعمرت أوروبا الهند والجزائر ومصر وسورية والعراق وتونس والمغرب إلخ…, واختلفت الهجمة الاستعمارية الحديثة عن سابقتها الصليبية باستهداف تغريب الأمّة وتغيير بنائها العقائدي والثقافي والسلوكي والنفسي والحياتي والاجتماعي والاقتصادي إلخ… في حين أن الهجمة الصليبية السابقة في العصور الوسطى كانت عسكرية فحسب، وقد استخدم الغرب ايديولوجيا القومية العربية للتأثير في العرب، وإيهامهم بأنّ هذه الايديولوجيا القومية العربية ستخلّصهم من التخلّف والتأخّر والانحطاط، وستنقلهم إلى الاستقلال والحضارة والتقدّم، فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة فشل القومية العربية في تحقيق الاستقلال والحرية والتقدّم، وكانت النتيجة قيام أعتى الديكتاتوريّات التي عرفها التاريخ العربي، وانتشار الفقر المدقع في معظم البلدان العربية، وضياع فلسطين والجولان وسيناء، وبروز القطرية ورسوخها، وتأخّر البحث العلمي والثقافي إلخ… لكنّ القومية العربية فشلت في تحقيق الهدف الرئيسي لها وهو تغريب المنطقة بدليل قيام الصحوة الإسلامية، وعودة الأمّة إلى دينها.
والآن بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان من عام 2003م، نجد الحديث الواسع عن حاجة المنطقة العربية إلى الديمقراطية، واعتبارها خشبة الخلاص، وقد أبرزت أمريكا ذلك على لسان مسؤوليها، وقد طرحت عدّة مشاريع تحقّق ذلك أبرزها: مشروع شراكة أمريكا مع الشرق الأوسط من أجل نشر الديمقراطية والذي طرحه كولن باول في كانون أول “ديسمبر” من عام 2002م، ومشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه بوش ثم ناقشته الدول الصناعية الكبرى الثمانية في اجتماعها في سي أيلاند من ولاية أتلانتا في حزيران “يونيو” من عام 2004م، كما قدّمت كل من فرنسا وألمانيا مشروعين مماثلين لمشروع بوش عن الشرق الأوسط، وكانت كل تلك المشاريع تركّز على الديمقراطية ونشر قِيَمِها وأخلاقها وأفكارها ومضامينها وحقائقها…، فما الهدف من كل ذلك؟ هل صحيح أن أمريكا مهتمّة بنشر الديمقراطية في العالم العربي؟ وهل صحيح أنها مهتمّة بترسيخ قِيَم العدالة والحرية؟ هل صحيح أن أمريكا أزالت ديكتاتورية صدّام من أجل رفع الاستبداد عن الشعب العراقي وجعله شعباً حرّاً؟
ليس من شكّ بأنّ الوقائع تؤكّد أن كل هذا الكلام غير صحيح، وأنّ أمريكا جاءت إلى العراق من أجل عدّة أهداف تتعلّق بمصلحتها، وأنّ كلامها عن الديمقراطية تقصد منه استخدامها وسيلة منهجية لتفكيك البنية الثقافية للأمّة ومن أجل تسهيل تغريبها وهو الهدف الذي فشلت أوروبا في تحقيقه خلال القرن العشرين، فكيف يمكن أنْ تكون الديمقراطية وسيلة لتفكيك البنية الثقافية لأمّتنا؟
يمكن أن تكون الديمقراطية وسيلة لتفكيك البنية الثقافية لأمّتنا بما تشتمل عليه من نسبية الحقيقة، وهي الفلسفة التي تقوم عليها الديمقراطية، وتعني نسبية الحقيقة أنه ليس هناك شيء ثابت أو حكم مطلق، وأنّ كل شيء خاضع للتغيير ومن ذلك الحقائق والأحكام الدينية والاجتماعية والاقتصادية إلخ…، وهذا يتصادم مع أحكام ثابتة في وجود أمّتنا من مثل أحكام العقيدة والعبادة والحدود والأسرة الميراث والزواج والطلاق إلخ… بالنسبة لنا وحدانية الله حقيقة ثابتة إلى قيام الساعة، وكذلك أداء صلاة الظهر أربع ركعات بالصورة التي شرعها الإسلام حكم ثابت إلى قيام الساعة، وأنّ العلاقة بين الذكر والأنثى يجب أنْ تكون من خلال عقد الزواج وأنّ أيّة علاقة أخرى من خارج عقد الزواج محرّمة شرعاً إلى قيام الساعة، وكذلك أخذ الربا حرام شرعاً إلى قيام الساعة إلخ… وجاء ثبات الأحكام السابقة من وجود جوانب ثابتة في الفطرة الإنسانية لا تتغيّر إلى قيام الساعة، فالإنسان مفطور على العبادة والصلاة وتقديس الربّ سبحانه وتعالى، ومفطور -كذلك- على الزواج وتشكيل الأسرة، ومفطور -كذلك- على حبّ المال والشهوات، لذلك جاءت النصوص والأحاديث والآيات والأحكام التي تتحدّث عن الله -تعالى- وصفاته، وعن العبادة وكيفيّتها، وعن أحكام الأسرة وما ينطوي تحتها من أحكام عن الزواج والطلاق والميراث إلخ… جاءت كلها ثابتة لأنها مستندة إلى جوانب ثابتة لا تتغيّر في الفطرة الإنسانية وتحدّثت عن ذلك نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة من مثل قوله تعالى: “قل هو الله أحد” (الصمد،1)، ومن مثل قوله: “للذكر مثل حظّ الانثيين” (النساء،11)، ومن مثل قوله تعالى: “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة” (البقرة،43)، ومن مثل قوله تعالى:
“والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون” (المعارج،29-31).
إنّ تبنّي أمريكا للديمقراطية تهدف منه تفكيك البنية الثقافية من أجل تحقيق خطوة التغريب التي فشلت أوروبا في تحقيقها خلال القرن الماضي، فكيف يمكن أن نفوّت على أمريكا هدفها في تفكيك البنية الثقافية وهدفها في تغريب المنطقة ونستفيد في الوقت نفسه من إيجابيات الديمقراطية؟
يمكن للأمّة أن تفوّت على أمريكا أهدافها من خلال التمييز بين آليات الديمقراطية وفلسفتها، فالآليات التي تشمل محاسبة الحاكم، وتداول السلطة، وإعطاء الحرّيات الصحفية والانتخابية إلخ…، والفلسفة التي تعني نسبية الحقيقة كما ذكرنا، ويكون التفويت على أمريكا وإحباط مخطّطها بالأخذ بالآليات وترك الفلسفة، لأن آليات الديمقراطية لا تتعارض مع قِيَم أمّتنا وثوابت دينها، في حين أن الفلسفة تتعارض معها، إنّ هذا التمييز هو الذي يجعلنا نستفيد من إيجابيّات الديمقراطية ونبتعد عن سلبيّاتها أخطارها، ونحبط أهداف أمريكا في منطقتنا.