tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

قضية فلسطين بين التأصيل الإسلامي والتأصيلات الأخرى

قضية فلسطين بين التأصيل الإسلامي والتأصيلات الأخرى

يدّعي اليهود بأنّ لهم حقاً تاريخياً في فلسطين وأنها أرض الميعاد التي أعطاها الله لهم، وليس من شك بأنّ أمتنا تعتبر فلسطين أرضاً لها، فما السند الذي نستند إليه في إقرار حقنا في فلسطين؟

وبماذا نرد على ادعاءات اليهود؟

الأرجح أنّ أحد عوامل نجاحنا في المعركة مع اليهود مرتبط بالإجابة الصحيحة عن هذين السؤالين. ولقد تناولت حقنا في فلسطين تأصيلات متعددة على مدار القرن الماضي حسب الظروف السياسية التي مرت بها المنطقة، منها: التأصيل القومي، والتأصيل الشيوعي، والتأصيل الوطني، ونحن سنستعرض هذه التأصيلات في البداية، ثم سنوضح التأصيل الإسلامي ومن خلاله سنرد على ادعاءات اليهود حول حقهم في فلسطين.

1- التأصيل القومي:

اعتبر التأصيل القومي أنّ أرض فلسطين أرض للأمة العربية، وهذا يتطلب منا معرفة أمرين:

متى تكونت الأمة العربية؟

ومتى أصبحت فلسطين أرضاً لها؟

إنّ الأمة العربية مصطلح جديدة استخدم في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مع نشأة الفكر القومي العربي، والحقيقة إنّ الأمة العربية بالمفهوم القومي لا وجود لها إلاّ في مخيّلة القوميين العرب، وذلك لأنّ الفكر القومي يعتبر أنّ الأمة تقوم على عنصري اللغة والتاريخ ويستثني الدين من تشكيل أية أمة، وهذا يختلف بل يتناقض مع الواقع الموضوعي الذي يؤكد بأنّ الدين الإسلامي عامل رئيسي وهام في تشكيل الأمة الموجودة في عالمنا العربي والتي عرفت باسم الأمة الإسلامية، فالدين الإسلامي هو الذي وحّد شعوب العالم العربي التي احتوت أجناساً متعددة مثل العرب والترك والفرس والشركس والبربر الخ. . .، وهو الذي صاغ عاداتها وتقاليدها وأذواقها، وهو الذي شكل قيمها وأخلاقها وتفكيرها، وهو الذي كوّن حضارتها وتاريخها وثقافتها، وهو الذي حفظ لغتها العربية من الضياع والاندثار، ومع ذلك سأتجاوز هذه الإشكالية التي يعاني منها الفكر القومي العربي وسأعتبر أنّ الأمة الإسلامية التي كوّنها الإسلام وقادها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً هي الأمة التي يعنيها الفكر القومي ويطلق عليها اسم: الأمة العربية ويعتبر بأنّ أرض فلسطين أرضٌ لها، ولكن هذا القول يقودنا إلى إشكالية أخرى حسب التأصيل القومي العربي وهي أسبقية الوجود اليهودي في فلسطين والذي بدأ قبل الميلاد بألفي سنة في حين أنّ الوجود العربي في فلسطين بدأ -حسب الطرح القومي- في منتصف القرن السابع الميلادي، ومن أجل حل هذه الإشكالية وسدّ هذه الثغرة اعتبر بعض منظري الفكر القومي العربي وبخاصة منظري حركة القوميين العرب أنّ الأمم السابقة على تشكيل الأمة العربية الإسلامية كالأمة الفينيقية في بلاد الشام والأمة الآشورية في بلاد العراق والأمة الفرعونية في مصر والأمة البربرية في شمال أفريقية الخ. . . اعتبروا كل تلك الأمم أمة عربية ولكن في مرحلة الإبهام، واعتبروا أنّ القومية تمر بمرحلتين الأولى: مبهمة، والثانية: واضحة، ولا شك أنّ هذا كلام لا يستقيم مع أدنى درجات العقل والمنطق، فكيف يمكن أن نعتبر الفينيقيين والفراعنة والآشوريين والبرابرة والكلدانيين أمة عربية وهم ليسوا جنساً عربياً ولا يتكلمون لغة عربية وليس بينهم وبين الأمة العربية الإسلامية أي اتصال في العادات والتقاليد والأخلاق والثقافة والقيم!!!

2- التأصيل الشيوعي:

اعتبرت الأحزاب الشيوعية حسب تحليلها الماركسي أنّ الطبقة العاملة واحدة لدى الشعبين العربي واليهودي، وأنّ عليها أن تتحد في مواجهة الطبقة البورجوازية العربية – اليهودية والمتحالفة مع الرأسمالية العالمية، لذلك وقفت الأحزاب الشيوعية ضد الحرب العربية اليهودية عام 1948م، واعتبرتها مؤامرة من  الإمبريالية الغربية وعميلتها البورجوازية العربية – اليهودية ضد البروليتاريا العربية – اليهودية، واستناداً إلى ذلك وقفت الأحزاب الشيوعية اليهودية والعربية إلى جانب قرار تقسيم فلسطين اتباعاً للاتحاد السوفييتي ودعت إلى الاعتراف بالدولة اليهودية إثر قيامها عام 1948م.

لا شك أنّ هذا التأصيل متهافت، ولم تتجاوب الجماهير العربية المسلمة معه بسبب الإلحاد الذي روّجت له الأحزاب الشيوعية من جهة، ولأنه يعطي اليهود حقاً في فلسطين مع أنه لا حق لهم فيها من جهة ثانية، ولأنه يحول صراعنا مع اليهود من صراع وجود إلى صراع طبقات من جهة ثالثة، لكن هذا الطرح الشيوعي مع تهافته بقي موجوداً في ساحة العمل الفلسطينية بسبب دعم الاتحاد السوفييتي له حيث زاد تغلغله وتأثيره إثر التطبيقات الاشتراكية التي سادت العالم العربي في ستينات القرن العشرين، والواضح أنّ هذا التأصيل الشيوعي كان أكثر رواجاً لدى الجانب اليهودي حيث تلقفته القيادة الصهيونية ووضعته كورقة بيدها تستخدمها في حال انتصار الشيوعية في البلاد العربية من أجل تمكين اليهود في فلسطين، ودعمته ببعض التطبيقات الاشتراكية في مجال العمال والمستعمرات فأنشأت اتحاداً ضخماً للعمال (الهستدروت) كما أنشأت مستعمرات استيطانية تطبق النهج الاشتراكي (الكيبوتز والموشاف).

3- التأصيل الوطني:

        يعتبر التأصيل الوطني أنّ أرض فلسطين وطن للفلسطينيين المقيمين فيها، ولم يأخذ هذا التأصيل بلورته العربية إلا عند نشوء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م بقرار من القمة العربية المنعقدة آنذاك، وكان القصد من إنشاء المنظمة إيجاد تمثيل للشعب الفلسطيني الذي كان قد شتت في عدد من البلدان العربية إثر نكبة عام 1948م، وقد مر تمثيل المنظمة للفلسطينيين بعدة مراحل، فقد اشتركت المنظمة مع المملكة الأردنية الهاشمية في تمثيل الفلسطينيين في المرحلة الأولى، ثم أصبحت المنظمة الممثل الرسمي الوحيد للفلسطينيين بعد القمة العربية عام 1974م في مرحلة ثانية، ثم أعلن الأردن في 31/8/1988 انفكاك الوحدة بين الضفتين وتخلّيه عن مسؤولية إدارتها إثر انتفاضة الحجارة الفلسطينية في ديسمبر/كانون أول عام 1987م والتي شملت الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت النتيجة أن أصبحت منظمة التحرير هي المسؤولة عن إدارة الضفة وقطاع غزة في مرحلة ثالثة، فأعلنت قيام الدولة الفلسطينية في الجزائر في منتصف نوفمبر عام 1988م، ثم اشتركت منظمة التحرير مع سورية والأردن ولبنان في مفاوضات سلام مع العدو الاسرائيلي في مدريد نهاية أكتوبر/تشرين أول عام 1991م، ثم انفردت المنظمة في مفاوضات سرية مع العدو الاسرائيلي في أوسلو والتي انتهت بالتوقيع على ما عرف باتفاقية أوسلو في البيت الأبيض في 13 سبتمبر/أيلول عام 1993م، والتي انبثق عنها قيام حكم ذاتي منقوص السيادة على الأرض والمياه والحدود والأمن والمقدسات، ولا يتوازى بحال من الأحوال مع التضحيات التي قدمتها أمتنا خلال التاريخ القريب والبعيد.

إنّ التأصيل الوطني لا يستقيم مع حقائق الجغرافيا والتاريخ والواقع الاجتماعي لفلسطين وشعبها، أما عن الجغرافيا فإنّ فلسطين الحالية لم تعرف الوحدة الجغرافية في الخلافة العثمانية وما قبلها، بل كانت إما أن يُقطع منها أرض أو مدن فتلحق بولايات أخرى، أو كان يُلحق بمدنها أرض أو مدن من ولايات أخرى، وعندما رسم الانجليز فلسطين بحدودها الجغرافية الحالية لم يرسموها بناء على حقائق تاريخية أو دينية، إنما رسموها بناء على مصالح سياسية أثناء الحرب العالمية الأولى حدّدها اتفاق سايكس يبكو من جهة، ووعد بلفور من جهة ثانية. أما عن التاريخ فلم تعرف فلسطين بحدودها الجغرافية الحالية أية شخصية خاصة بها على مدار التاريخ الماضي قبل الإسلام وبعده، ولم تعرف أي تمايز عن محيطها الجغرافي في عادات أو تقاليد أو أخلاق أو قيم الخ. . .، إنما كانت تشكل باستمرار جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي والأخلاقي المحيط بها وهو على الأقل محيط بلاد الشام.

        إنّ التأصيل الوطني ضعيف مع دعاته وفي وجه أعدائه: ضعيف مع دعاته لأنه تأصيل –كما رأينا- لا يتفق مع حقائق الجغرافيا والتاريخ، وضعيف في وجه أعدائه لأنه لا يثبت أمام الدعوى التاريخية الصهيونية في سكنى فلسطين قبل الميلاد.

        إنّ تفنيدنا للتأصيل الوطني لا يعني أننا لا نقر حب المرء لوطنه وبالذات المقدسات فيه، لا فهذا أمر فطري أقره الإسلام وفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، أقره الإسلام عندما قال سبحانه:

(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة،24).

وفعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال عن مكة:

“والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت” (رواه أحمد).

ولكن نقول إنّ هذا الحب وحده لا يقيم تأصيلاً لأنه يشترك فيه جميع البشر. 

4- التأصيل الإسلامي:

ما الدعاوي التي يقوم التأصيل الاسرائيلي عليها؟

يقوم على ادعاء أنهم شعب الله المختار من جهة، وأنّ الله وعدهم أرض فلسطين من جهة ثانية، فبماذا نرد على هذه الدعاوي؟

يقر التأصيل الإسلامي ابتداء بأنّ الله سبحانه فضل بني إسرائيل فقال سبحانه:

(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) (البقرة،47).

(ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين) (الجاثية،16).

ولكن هذا التفضيل مقصور على الأقوام التي عاصرت بني اسرائيل وليس تفضيلاً إلى قيام الساعة كما ادعى بنو اسرائيل فيما بعد، ويقر التأصيل الإسلامي أيضاً بأنّ الله وعدهم بأرض فلسطين على عهد موسى u حيث قال موسى u مخاطباً قومه:

(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) (المائدة،21).

ويقر التأصيل الإسلامي أيضاً استناداً إلى القرآن الكريم بأنّ بني إسرائيل لم يقوموا بالواجبات المترتبة على نعمة التفضيل تلك، بل كانوا نموذجاً في الجحود والوقوع في الشرك وعدم احترام الأنبياء وطاعتهم، ويمكن أن نبدأ بتوضيح موقفهم من الوعد بالأرض المقدسة، فهم لم يستجيبوا لطلب موسى u بالدخول بل أعلنوا أنهم خائفون من ساكنيها الذين وصفوهم بالجبارين، وأعلنوا أنهم لن يدخلوها حتى يخرج ساكنوها، ولم يستجيبوا لنصيحة الرجلين المؤمنين بأن يبادروا ساكني فلسطين بالقتال، وأكدوا أنهم لن يدخلوها مادام ساكنوها فيها، وطلبوا في قلة أدب صارخة أن يذهب موسى u وربه لمقاتلة ساكني فلسطين وكأنّ الأمر لا يعنيهم ولا يهمهم، وكانت النتيجة تحريم الله الأرض عليهم ومعاقبتهم بالتيه في الصحراء وقد بينت آيات القرآن الكريم كل ذلك فقال سبحانه:

(قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون . قال ربي إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) (المائدة،22-26).

        ولقد كان موقفهم من قضية توحيد الله لا يقل سوءاً عن موقفهم من قضية الأمر بدخول (الأرض المقدسة) ومن ذلك طلبهم إلى موسى u أن يجعل لهم أصناماً يعكفون عليها عندما مروا على قوم يعبدون الأصنام، فغضب موسى u من ذلك غضباً شديداً وبخاصة أنّ طلبهم جاء بعد إنعام الله سبحانه عليهم بإنجائهم من عذاب فرعون في مصر، تحدث القرآن عن ذلك فقال سبحانه:

(وجاوزنا ببني اسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال إنكم قوم تجهلون. إنّ هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) (الأعراف،138-139).

ومن مواقفهم السيئة-أيضاً- في مجال التوحيد عكوفهم على العجل الذي أقامه السامري لهم عند ذهاب موسى u إلى جبل الطور لجلب الألواح التي تحتوي على التشريعات الإلهية المنـزلة إليهم، وإخبار الله سبحانه له بهذا الكفر الذي وقعوا فيه، وغضب موسى u عندما رآهم يعكفون على تلك الأصنام، وقد بين القرآن الكريم كل ذلك وبين غضب الله عليهم والذلة التي ستصيبهم في الحياة الدنيا، قال سبحانه:

(واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار، ألم يرو أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين . ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين. ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم؟ وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، قال: ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين. قال: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين. أنّ الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين) (الأعراف،148-152).

وقد تحدثت آيات كثيرة في القرآن الكريم، عن جوانب كثيرة من انحراف بني اسرائيل تجلت في طلبهم رؤية الله بعد أن اختار موسى سبعين رجلاً من خيرة بني اسرائيل للذهاب معه إلى جبل الطور لإظهار الندم على عبادة العجل ومع أنهم في موقف توبة وندم فإنهم طلبوا أن يروا الله جهرة مما يدل على سوء أدبهم مع الله، قال سبحانه:

(وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون)(البقرة،55-56).

ثم بينت آيات أخرى سوء فطرتهم لطلبهم الفوم والعدس والبصل عوضاً عن المن والسلوى، قال سبحانه:

(وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، اهبطوا مصراً فإنّ لكم ما سألتم) (البقرة، 61).

ثم تحدثت آيات أخرى عن اعتدائهم في السبت واحتيالهم على أوامر الله ومعاقبة الله لهم بأن مسخهم قردة فقال سبحانه:

(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين . فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) (البقرة،65-66).

        وقد تحدثت آيات كثيرة أخرى في سور متعددة عن إفساد بني اسرائيل وقسوة قلوبهم وتجذر الحسد والكراهية في نفوسهم وشقاقهم وكثرة اختلافهم وجبنهم وحرصهم على الدنيا واستكبارهم، ثم كانت نتيجة ذلك أن أوقع الله عليهم اللعنة وقضى عليهم بالذلة والمسكنة والغضب، أما عن اللعن فقال تعالى:

(لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (المائدة،78-79).

وأما عن الغضب والذلة والمسكنة فقال سبحانه:

(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) (البقرة،61).

وفي سورة أخرى قال سبحانه:

(ضربت عليهم الذلة والمسكنة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) (آل عمران،112).

        وكانت نتيجة غضب الله عليهم ولعنهم وضرب الذلة والمسكنة عليهم أن انتزع الله التفضيل منهم، ولم يعودوا شعب الله المختار المؤهل لسكنى الأرض المقدسة، بل شعب الله المغضوب عليه الذي نتعوذ في كل صلاة من أن نكون مثله عندما نقرأ قوله سبحانه:

(اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفاتحة،6-7).

علام يقوم التأصيل الإسلامي في إثبات حقنا في فلسطين؟       

وبعد أن فندنا الطرح الاسرائيلي: علام يقوم التأصيل الإسلامي في إثبات حقنا في فلسطين؟ يقوم على ثلاث ركائز هي:

  • أخوة الأنبياء.
  • وتشكيل جميع أتباع الأنبياء أمة واحدة على مدار التاريخ البشري.
  • وقدسية فلسطين سبقت وجود بني اسرائيل وسبقت ابتعاث موسى عليه السلام.

الركيزة الأولى

أما الركيزة الأولى وهي أخوة الأنبياء فذالك يعني أنّ المطلوب من المسلم هو الإيمان بجميع الأنبياء وأنّ الكفر بواحد منهم هو الكفر بهم جميعاً فقد قال سبحانه:

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (البقرة،285).

لذلك رأينا كل نبي يدعو إلى الإيمان بمن سبقه، ويبشر بمن يأتي بعده، ويأمر أتباعه بالإيمان به عند ابتعاثه، قال سبحانه:

(وإذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) (الصف،6).

ورأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا أنه أولى بموسى من بني اسرائيل، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوماً يعني عاشوراء، فقالوا: هذا يوم عظيم، وهو يوم نجّى الله فيه موسى وأغرق فرعون فصام موسى شكراً لله، فقال: “أنا أولى بموسى منهم” فصامه وأمر بصيامه. (رواه البخاري).

الركيزة الثانية

أما الركيزة الثانية في التأصيل الإسلامي فتقوم على أنّ أتباع الأنبياء أمة واحدة على مدار التاريخ البشري، فقد تحدّثت سورة “الأنبياء” عن معظم الأنبياء السابقين وهم: موسى، وهارون، وابراهيم، ولوط، وإسحاق، ويعقوب، وداوود، وسليمان، وأيوب، واسماعيل، وإدريس، وذو الكفل، وذو النون، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم السلام جميعاً، وذكرت تفاصيل عن دعوتهم وعبادتهم الخ. . . ثم أشارت إلى أنّ كل هؤلاء الأنبياء يشكلون أمة واحدة فقال سبحانه:

(إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء،92).

كذلك تحدثت سورة أخرى وهي سورة “المؤمنون” عن عدد من الأنبياء هم: نوح، وهود، وموسى، وهارون، وعيسى عليهم السلام، ثم قالت:

(وإنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون،53).

ولما كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء وسيدهم وإمامهم كما تأكد ذلك عندما أمهم في الأقصى في رحلة الإسراء والمعراج، كانت أمته بالضرورة هي الوارثة لأمة الأنبياء الواحدة.

الركيزة الثالثة

أما الركيزة الثالثة وهي قدسية فلسطين قبل وجود بني اسرائيل وقبل ابتعاث موسى u فقد جاءت من وجود المسجد الأقصى فيها ومن أنها أرض مباركة، فقد بيّن القرآن الكريم أنّ المسجد الحرام أول بيت وضع للناس، قال سبحانه:

(إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين) (آل عمران،96).

ثم بيّن الحديث الشريف أنّ المسجد الأقصى بني بعد ذلك بأربعين سنة، فقد جاء عن أبي ذر قلت:

يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال:  المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة. (أخرجه البخاري)،

وقد تم كل هذا في بداية سكنى الإنسان للأرض، وقد وصف القرآن الكريم أرض فلسطين بأنها مباركة عندما هاجر إليها ابراهيم ولوط -عليهما السلام- قبل وجود بني اسرائيل، قال سبحانه:

(ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) (الأنبياء،71).

لذلك عندما دعا موسى u قومه إلى دخول فلسطين قال لهم:

(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) (المائدة،21).

ففلسطين مقدسة قبل دعوتهم إلى دخولها، وكذلك عندما عرج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء كان عروجه من المسجد الأقصى إبرازاً لقدسيته، وكانت واقعة الإسراء المقصود منها تعليم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الوارثة لأمة الأنبياء الربط بين أقدس مكانين: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، قال سبحانه:

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آيتنا إنه هو السميع البصير) (الإسراء،1).

        رأينا فيما سبق أنّ التأصيل الإسلامي لحقنا في فلسطين يقوم على ثلاث ركائز: الأولى: الرسول محمد أخ للرسول موسى عليهما السلام، ونحن أولى بموسى من بني اسرائيل لأنهم عاصون له ومحرفون لرسالته ومغضوب عليهم من الله، والثانية أمة الأنبياء واحدة على مدار التاريخ، وأمة محمد هي الوارثة لأمة الأنبياء، والثالثة: فلسطين مقدسة قبل وجود بني اسرائيل وقبل ابتعاث موسى عليه السلام، وطالما أنّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الوارثة لأمة الأنبياء فهي الوارثة لأرض فلسطين المقدسة وهي الوارثة للمقدسات الموجودة فيها.

الخلاصة

والآن بعد أن فندنا الدعاوي الاسرائيلية، وبيّنا ركائز التأصيل الإسلامي ووضحنا ضعف التأصيلات الأخرى: القومية، والشيوعية، والوطنية، نستطيع أن نقول: أنّ أحد عوامل هزيمتنا هو اعتماد تلك التأصيلات مع ضعفها، وعدم اعتماد التأصيل الإسلامي مع أنه يتفق مع حقائق التاريخ والجغرافيا من جهة، ويمتلك كل مقومات التماسك والعقلانية والسلامة الشرعية من جهة ثانية.

اترك رد