قراءة في كتاب “فهم القرآن الحكيم” للدكتور محمد عابد الجابري

ألف محمد عابد الجابري مؤخراً كتابين حول القرآن الكريم:

الأول: كان تحت عنوان “مدخل إلى القرآن الكريم”.

الثاني: “فهم القرآن الحكيم”.

وتضمن الكتاب الثاني تفسيراً لبعض السور المكية، حسب ترتيب النزول، وقد قسم الكتاب إلى ثلاث مراحل:

الأولى: وقد تحدثت السور فيها عن النبوة والربوبية والألوهية.

الثانية: تحدثت السور فيها عن البعث والجزاء ومشاهد القيامة.

الثالثة: تحدثت فيها السور عن إبطال الشرك وتسفيه عبادة الأصنام.

ويعتقد الجابري أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم جاء بمعجزة عقلية وهي القرآن الكريم، ومما يؤشر إلى هذا التوجه تسمية تفسيره للقرآن (تفسير القرآن الحكيم) مع أن التسمية الشائعة للقرآن عند عموم المسلمين ب(القرآن الكريم)، وهو اختار صفة (الحكيم) للقرآن لأنها مأخوذة من الحكمة التي هي أقرب إلى العقل.

وعندما أبرز الجابري الصفة العقلية في معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الرئيسية وهي القرآن الكريم لم يجانب الصواب، لكن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم لم تقتصر على الجانب العقلي، وهنا يكمن خطأ الجابري، بل اشتملت على معجزات حسية، ونستطيع أن نؤكد أن رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم احتوت على نوعي المعجزات: العقلية، والحسية، وقد نقل القرآن الكريم والأحاديث الشريفة عدداً من المعجزات الحسية منها:

  • نبع الماء بين يديه.
  • إطعام جيش بطعام شخص واحد.
  • وحنين الجذع إليه.
  • وسلام الحجر عليه.
  • وشفاؤه لبعض الصحابة من بعض الأمراض إلخ…

ويمكن أن نستشف في القرآن الكريم وهو المعجزة العقلية الرئيسية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم جانباً آخر حسياً يطرق الجانب الشعوري في الإنسان ويتمثل ذلك في جرس الآيات وإيقاعها وموسيقاها، كما يتجسد في الصور الحسية التي يقدمها القرآن الكريم من خلال آيات نعيم الآخرة، والتي تستثير عاطفة الرجاء، ومن خلال آيات عذاب الآخرة التي تستثير عاطفة الخوف، ويتمثل حرص الإسلام على التعامل الحسي مع المعجزة القرآنية في تقرير الشرع أن قارئ القرآن يأخذ أجراً عندما يحرك شفتيه في تلاوة آيات القرآن الكريم، ولا يأخذ القارئ أجراً عندما يقرأ القرآن بعينيه فقط، والأرجح أن المقصود بتقرير هذا الأجر توليد التفاعل مع الجرس الموسيقي للآيات الكريمة عند تلاوة القارئ لها.

وحاول الجابري من أجل تدعيم وجهة نظره في اقتصار دعوة الرسول على المعجزة العقلية حاول أن يؤول بعض المعجزات التي وردت في السور التي فسرها تأويلاً يبعدها عن سياقها، ومن ذلك حادثة انشقاق القمر، والتي وردت في قوله تعالى:

“اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر”

فقد نفى في تفسيره أن يكون قد وقع الانشقاق في القمر ومال إلى تفسير الآية بأنه “اقتربت الساعة وسينشق القمر”، وبأن الانشقاق الذي ذكرته الآية هو كسوف وقع للقمر آنذاك، وهو في هذا مخالف للروايات الصحيحة التي أوردتها روايات حديثية تؤكد وقوع انشقاق القمر، وأن أهل مكة سألوا الركبان القادمين إلى مكة عن ذلك الانشقاق فذكروا لهم وقوعه.

ويمكن أن نضع في السياق نفسه وهو تجاهل الجابري المعجزات الحسية التي حدثت مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها: حادثة شق الصدر التي أشارت إليها سورة “الشرح” في قوله تعالى:

(ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك)

حيث نقلت الأحاديث الصحيحة أن شرح الصدر حدث مرتين للرسول صلى الله عليه وسلم:

الأولى وهو صغير، فقد جاءه جبريل عليه السلام وشق صدره، وغسل قلبه بماء زمزم.

الثانية: ليلة الإسراء.

ومنها: عدم حديثه عن المعراج في تفسير سورة النجم حيث قال الله تعالى:

(ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (النجم، 11-17)

فلم يذكر الجابري أي شيء عن معجزة المعراج الذي رأى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الملائكية للمرة الثانية كما تحدثت عنه الآيات السابقة.

ويلحظ الدارس لتفسير الجابري اجتهاده في تضييق مساحة عالم الغيب في الآيات التي فسرها، وهو يفعل ذلك من أجل توسيع مساحة الجانب العقلي في الدين الإسلامي على حساب الحقائق التي يقوم عليها الدين الإسلامي، ومن هذه الغيوب التي تعرض لها الجابري: السحر، والشياطين، والجن، ورؤية الله يوم القيامة، والدابة التي تخرج من الأرض وتكلم الناس والتي هي من العلامات الكبرى ليوم القيامة، والصوت الذي كلم الله به موسى عليه السلام، وهو من أجل تحقيق هذا الغرض اتبع عدة أساليب، منها: أنه ينكر حقيقة الشيء المتحدث عنه أحياناً كما في قضية السحر، ومنها: أنه يعرض دلائل لطرفين أحدهما يثبت والآخر ينفيها، والواضح أن المقصود بعرض دلائل الطرفين وضع القارئ أمام بلبلة تهز قناعاته، ومنها: أنه يتبنى وجهة نظر المعتزلة كما في تفسير آية

(وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة) (القيامة،22-23).

ومنها: أنه يستشهد ببعض الأحاديث التي تعضد وجهة نظره في القضية المتحدث عنها كما فعل في قضية إنكاره لخرق العادة، وذكر في هذا الصدد الحديث الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

“ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة” (رواه البخاري)

مع أن هناك أحاديث كثيرة تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي معجزات خرق فيها العادة، ولا شك أن هذا المنهج انتقائي وخاطئ في الوقت نفسه، لأنه يأخذ بالحديث عندما يعضد وجهة نظره، ولا يأخذ به عندما لا يعضد وجهة نظره، مع أن الجابري بشكل عام لا يسلم بأحاديث كتب أهل السنة ولا يأخذ بها.

ومن اللافت للنظر أن موقف الجابري من قضية الغيوب وتأويلها يكاد يتطابق مع موقف محمد عبده الذي طُرح قبل مائة سنة، فقد نشط محمد عبده في تأويل كثير من مفردات الغيب، ومن هذه الأمور التي أوّلها محمد عبده كلمة “طيراً أبابيل” التي وردت في سورة الفيل في قوله تعالى: “وأرسل عليهم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول” فأول طيراً أبابيل بمرض الطاعون الذي تذكر إحدى الروايات أنه انتشر أثناء غزو أبرهة للكعبة، وقد ذكر الجابري التفسير نفسه عندما فسّر سورة الفيل”. لكن دوافع التأويل تختلف بين الرجلين، فمحمد عبده فعل ذلك من أجل تضييق الفجوة بين الحضارة الغربية والدين الإسلامي، لكن الجابري فعل ذلك من أجل توسيع مساحة الجانب العقلي في الدين الإسلامي.

وذكر الجابري أن هناك تدرجاً في الحديث عن أسماء الله، فقد بدأ الكلام عن اسم الرب ثم اسم الله، ثم اسم الرحمن، وربط بهذا التطور قضية الربوبية والألوهية، لكن كلام الجابري غير دقيق ومجانب للصواب في هذه الجزئية، ويدل على ذلك “سورة البروج” التي أوردها في سور هذه المرحلة، والتي احتوت على أسماء لله تعالى، وصفات ذات وصفات فعل متعددة، غير (الرب والإله والرحمن) ومن الأسماء التي وردت في هذه السورة: (العزيز، الحميد، الغفور، الودود)، ومن الصفات التي جاءت فيها كذلك:

“الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد”، “ذو العرش المجيد”، كما ورد فيها إخبار عن عدد من أفعاله تعالى، وهي: “إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد، فعّال لما يريد”.

إن سورة “البروج” نموذج واحد مخالف لما ذهب إليه الجابري، وهناك نماذج أخرى لا مجال لإبرازها في عجالة هذا المقال، والحقيقة إن الحديث عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله هدف من أهداف القرآن الكريم، وهدف مهم من أهداف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبخاصة أن الانحرافات قد طالت هذا الهدف لدى أتباع الديانات السابقة، وأن العقل البشري لا يستطيع أن يتوصل بأدواته إلى شيء حقيقي مؤكد في هذه القضية، لذلك فصل القرآن هذه الحقيقة واستمر يتحدث عنها ثلاثة وعشرين عاماً خلال فترة تنزل القرآن الكريم، وبيّن تبييناً وافياً ما يتعلق  بصفات الله وأفعاله، وحدد أسماءه التي يدعى تعالى بها تحديداً دقيقاً، ولم يقتصر الحديث عنها في المرحلة الأولى حسب ما ذكر الجابري.

أما المعاد وهو القضية الثانية التي أبرزها الكتاب، فقد صور الجابري حديث القرآن الكريم عن هذه القضية وكأنه تخويف من الوحي لقريش رداً على إساءاتها للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن طرحها بهذه الصورة طرح قاصر، وإلا بماذا نفسر هذا الحديث الطويل عن الجنة والنار في (سورة الرحمن) والتي جاءت في سور المرحلة الأولى، والتي اشتملت على تفصيل عن العذاب الذي يطال المجرمين، كما تحدثت بتفصيل عن النعيم الذي يطال الأبرار والمؤمنين على درجتين، وكل درجة أعلى من التي سبقتها، فللأبرار عينان تجريان، وزوجان من كل فاكهة، وفرش بطائنها من إستبرق، وحور عين إلخ..، أما درجة المؤمنين وهي الدرجة الأدنى فلهم فيها: عينان نضاختان، وفيها بعض الفاكهة وليس كل أنواع الفاكهة، وفيها نساء حسناوات إلخ…، والآن ما المقصود بمثل هذا التفصيل عن العذاب والنعيم يوم القيامة منذ المرحلة الأولى لنزول الوحي؟

المقصود هو بناء القلب البشري بناءً صحيحاً بحيث يتجه رجاؤه إلى جنة الله التي احتوت خيراً من كل نعيم على الأرض، ويتجه خوفه إلى نار الله التي لا يقارن عذابها بأي عذاب في الدنيا، وهذا ما فهمه الصحابة لذلك كانت تلاوة القرآن الكريم غذاء وزاداً يبني قلوبهم بالصلاح والصبر والتقوى والاستعانة والتضحية إلخ..

في النهاية تنزل الوحي منذ البداية لعدة حقائق منها: الرب الواحد والآخرة وغيرهما، ثم استمر القرآن الكريم يتحدث عنهما بصور مختلفة على مدار ثلاثة وعشرين عاماً.

 

Lorem Ipsum

اترك رد