tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

ما معنى الوطن وما هي المواطنة؟

تحدث كثير من الكتاب والمفكرين عن “الوطن” و”المواطنة” بشكل غير دقيق، واعتبروا مجرد تسمية ذلك البلد باسم “وطن الأردن” مثلاً، فهذا يعني أن هناك “مواطنة” في الأردن، وهذا الكلام ليس صحيحاً ولا سليماً.

لقد جاءت كلمة “الوطن” من الحضارة الغربية في العصور الحديثة، وهي “مفهوم” و “مصطلح” له دلالاته الخاصة التي تكونت عبر مراحل طويلة من التاريخ، وربما احتاجت إلى مئات السنين، فمصطلح “الوطن” الذي تكون في الغرب، لا يتطابق مع كلمة “الوطن” المعجمية التي تعني عندنا “الأرض” فقط، وتدل على “جغرافيا” ذلك البلد، “فالوطن اللبناني” عندنا هو “جغرافيا” لبنان، تبدأ من “طرابلس” شمالاً وتنتهي في “رأس الناقورة” جنوبا وغير ذلك من المعالم الجغرافية المعروفة.

لكن كلمة “الوطن” في الغرب التي تشكلت في العصور الحديثة بعد انهيار الامبراطوريات الكنسية الإقطاعية في نهاية العصور الوسطى التي كانت تحكم أوروبا من أمثال أسرة بوربون في فرنسا، وأسرة هوهنتسولرن وأولدنبورغ في ألمانيا، وعائلة سافوي في إيطاليا إلخ …

لقد انهارت تلك الأسر والدول التي كانت تحكم أعراقاً وشعوبا مختلفة، بفعل نشوء الرأسمالية، وانتهاء المرحلة الإقطاعية، ونشوء الثورة الصناعية التي بدأت بعصر البخار ثم الكهرباء، ونشوء الصراع الديني بين الكاثوليكية والبروتستانتية، ثم قيام الثورة الفرنسية عام 1789، لقد خلقت تلك التطورات والتي اشتملت على عوامل دينية وعرقية، واجتماعية، واقتصادية وتفاعلها مع بعضها جميعا، لقد خلقت تلك التطورات “أمماً” جديدة، “ودولا “جديدة، “وأوطاناً” جديدة.

لقد كانت الروابط التي تجمع الشعوب القديمة هي الدين والأسر الحاكمة، لكن بعد أن انهارت تلك الدول-الأسر، انبثقت روابط جديدة تقوم على “مفهوم الوطن” الذي يحتوي على “المواطنة” والذي تسكنه “أمة”.

فأصبح هناك “الوطن الفرنسي” و”المواطنة الفرنسية” و”الأمة الفرنسية” … وقس على ذلك بقية الدول والأوطان والأمم التي تشكلت في أوروبا من مثل: النمسا، المجر، هولندا، السويد، إلخ…

عندما تقول كلمة “الوطن الفرنسي” فيعني ذلك عدة أمور:

أولاً: هناك أرض جغرافية تعرف باسم “الوطن الفرنسي”.

ثانياً: هناك “أمة فرنسية” تجمعها أمور مشتركة متعددة: من عادات وتقاليد ومفاهيم وأخلاق وقيم. جاءت نتيجة تطور تاريخي مشترك وتشكلت خلال القرون السابقة، وهذه الأمور تشكل خلفية ذهنية وشعورية لها تميزها عن غيرها من الأمم، ويمكن أن نسمي هذه الأمور المشتركة التي تكونت خلال مئات السنين بـ “الوحدة الثقافية”.

ثالثاً: “المواطنة”:

إن هذه الثقافة المشتركة التي تجمع الشعب الفرنسي والتي تشكل “الوحدة الثقافية” هي أصل قيام “المواطنة”. “فالمواطنة” قيم وأفكار وعادات وتقاليد وأخلاق تشكلت عبر مئات السنين وهي التي جعلتهم يقيمون “وطناً فرنسياً”.

إذن “المواطنة” ليست لفظاً مجرداً أطلقه فتكون قد تحققت “المواطنة “، بل هي قيم مشتركة وثقافة وأخلاق وعادات وتقاليد تبلورت خلال مئات السنين، هي التي تجمع هؤلاء “المواطنين الفرنسيين” وتميزهم عن غيرهم، لأنهم مشتركون ومتقاربون في عشرات الأمور المهمة التي أشرنا إليها، والتي تشكل أساس “المواطنة”.

الآن نأتي إلى بلادنا، فلو أخذنا بلداً مثل العراق، تشكل كقطر، وككيان سياسي مستقل بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد سقوط الخلافة العثمانية، من المعلوم أن هذا القطر تم تشكيله بناء على مفاوضات بين وزيري خارجية فرنسا وإنكلترا، ونجم عن هذه المفاوضات اتفاق سايكس-بيكو الذي عرف بهذا العنوان.

واستطاع الإنكليز ضم الموصل إليه طمعاً في البترول الذي كان قد أكتشف فيه، مع أن الموصل أقرب تاريخياً إلى حلب وسورية، وألحقت مدينة “دير الزور” بسورية مع أنها أقرب تاريخياً إلى العراق.

ثم جاء الملك فيصل وحكم العراق، وقام إلى جانبه ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي، وأقام دولة قومية، وكان القصد من هذه الدولة أن تؤسس لمرحلة جديدة في المنطقة.

من ملامح هذ المرحلة الجديدة استبدال الإخاء القومي العربي بالإخاء الإسلامي من جهة، وإنشاء أمة عربية تكون بديلاً عن الأمة الإسلامية التي قامت قبل أربعة عشر قرناً من جهة ثانية، وإنشاء وطن عراقي يقيم “مواطنة عراقية” من جهة ثالثة.

فماذا كانت النتيجة؟ لقد فشل الفكر القومي العربي في تكوين “وطن عراقي” وفي إنشاء “مواطنة عراقية” بدليل أنه بعد مائة سنة من الحكم القومي العربي في مرحلتيه الملكية والجمهورية وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 لم يرجع العراق موحداً، ولم يواجه العدوان موحداً، لأنه لم تنشأ “المواطنة” المطلوبة.

لقد نجح الفكر القومي العربي في العراق –بكل أسف- خلال المائة سنة الماضية في أمر واحد فقط وهو تفتيت الرابطة السابقة، وهي رابطة “الأخوة الإسلامية” والتي تقوم على عدة عوامل منها: “الوحدة الثقافية” بالدرجة الأولى، والتي حفظت كيان “الأمة الواحدة” لأكثر من ألف عام.

ولنأخذ مثالاً آخر هو سورية، أقر من البداية أن هناك سورية، “جغرافياً” هناك بلد اسمه سورية، كما تقول “محافظة حلب”، “محافظة حمص”، فهل هناك “وطن سوري” بالمعنى “القومي والوطني” الذي وجدناه في فرنسا؟ وهل هناك “مواطنة” تقوم على قيم متبلورة ومشكلة تجمع “السوريين” جميعاً؟ وهل هناك “هوية سورية” بمعنى صفات مشتركة تميز سورية والسوريين عن غيرهم؟ هل هناك “وحدة ثقافية سورية” تميز سورية عن غيرها؟

الجواب على كل الأسئلة السابقة: لا، لأنه لم يتشكل “وطن سوري”، فتحقيق هذا الأمر يحتاج مئات السنين، وبالتالي ليست هناك ” مواطنة سورية” وليست هناك “هوية سورية” فهل معنى ذلك أنه لا توجد روابط مشتركة تجمع السوريين أو الأردنيين أو العراقيين؟

توجد رابطة تجمع السوريين وهي رابطة “الأخوة الإسلامية” والتي قامت منذ أكثر من ألف سنة، واستمرت فاعلة بين السوريين أنفسهم، وتجمع السوريين مع أبناء “الأمة الإسلامية” الآخرين في العراق والأردن ومصر وتونس إلخ …، وهنا يأتي السؤال وماذا عن أصحاب الديانات والطوائف والمذاهب الأخرى التي تقيم بين ظهراني المجتمع الإسلامي؟ ما وضعها؟ وكيف تعامل معها “المجتمع الإسلامي” و”الأمة الإسلامية”؟

لقد تجلَّت عبقرية “الأمة الإسلامية” بأنها ابتكرت وسائل وروابط أقامتها معها، وجعلتها جزءاً منها، واستفادت من إمكانياتها، وكانت رافداً من روافد “الحضارة الإسلامية” وأعتقد أن العامل الأساسي في توليد هذه “العبقرية” في التعامل مع الآخرين المخالفين في الدين والمذهب، واستيعابهم بصورة من الصور ليكونوا عامل بناء في المشروع الحضاري الإسلامي، هو الأحكام الخاصة التي وردت في حق أهل الكتاب، وأباحت للمسلمين أن يأكلوا ذبائحهم ويتزوجوا نساءهم كما قال تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة:5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ[المائدة:16]

لقد نشأت علاقات وروابط بين المسلمين وبين الآخرين، الذين يعيشون في بلادهم من أرقى الروابط والعلاقات، لكنها تحتاج إلى الدراسة والتقنين والإظهار، وهي من الجوانب التي لم تأخذ حقها من الدراسة والتمحيص، وبقيت في منطقة الإهمال ولعلي أفعل شيئاً من هذا في مقال قادم إن شاء الله.

ولقد حاول الغرب خلال المائة سنة الماضية أن يدمر “الأمة الإسلامية” ووحدتها، ورابطة “الأخوة الإسلامية” من خلال ثلاثة أعمال:

الأول: إقامة كيانات قطرية كما فعل في بلاد الشام حيث جزأها إلى أربع كيانات (سورية، لبنان، فلسطين، الأردن)، وأنشأ “دولة العراق” إلخ …، وهو يطمح أن تتحول هذه الأقطار إلى أمم، فتصبح هناك “أمة أردنية”، “أمة لبنانية” إلخ …، تنفصل انفصالاً تاماً عن “أمتها الإسلامية” بمرور الزمن.

الثاني: تفتيت “الوحدة الثقافية” التي تعتبر المقوم الرئيسي لوجود “أمتنا”، وذلك من أجل تدمير “أمتنا” وإنهاء فاعليتها في الأرض، وذلك من خلال التشكيك والتهوين من محاور هذه “الوحدة الثقافية”، وهي: القرآن الكريم، السنة المشرفة، اللغة العربية.

الثالث: دفع الأعراق والأجناس والطوائف والمذاهب المختلفة والتي كانت جزءاً من الأمة الإسلامية على مدار التاريخ إلى إقامة كيان مستقل من أجل التمزيق والتفتيت، كما هم الآن مع الشيعة والأكراد في العراق، والمسيحيين في لبنان.

هل يعني ذلك أن “الأرض-الوطن” لا قيمة له في منهجيتنا الإسلامية؟ لا، بالعكس، فالوطن له قيمته الكبرى وأهميته الخاصة من خلال المعطيات الإسلامية التي راعت “الفطرة” من جهة، وراعت استهداف جمع الأعراق والشعوب والقبائل والأجناس، ودمجها في بوتقة هي بوتقة “الأمة” من جهة ثانية.

فقد أباح الإسلام لنا أن نحب أرضنا وأوطاننا، فقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة، 24)

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة بعد هجرته منها:” ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك” (رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه والطبراني في الكبير)

وأوجب علينا أن ندافع عن أرضنا وألا نفرط فيها، واعتبر القتل في الدفاع عنها شهادة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد” (صححه الألباني)

وقد افتى العلماء بأن الجهاد يتعين ويصبح فرض عين على كل “أهل البلد” التي تواجه عدواناً من آخرين لاغتصابها وأخذها من أهلها، وأفتوا بأنه يجوز للعبد أن يخرج بدون إذن سيده، وإذا عجز أهل “تلك الأرض” في الوقوف في وجه المعتدي عليهم فينتقل وجوب مساعدتهم إلى المجاورين لهم ويتعين عليهم الجهاد، وهكذا دواليك.

الخلاصة: لقد جاء “مصطلح الوطن” و”المواطنة من الغرب، وقد تجمعت وتبلورت مدلولات ومضامين مصطلح “الوطن” في أوروبا خلال عشرات السنين بل مئاتها، وقد تكون هذا المصطلح من تفاعل وعدة عوامل منها: العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية إلخ …

وانبثق مصطلح “المواطنة” نتيجة تشكل “الوطن” ووجوده جغرافياً وثقافياً وفكرياً إلخ …ويعني مصطلح “المواطنة” اشتراك أفراد هذا “الوطن” في عدد من الصفات والعادات والأخلاق والقيم التي تميزهم عن غيرهم وبالتالي تكون نتيجة هذا الفهم المشترك واللقاء المشترك وجود “مواطنين” يسعون إلى تحقيق العدالة والمساواة.

وإذا جئنا إلى بلادنا وجدنا أنه ليس هناك “وطن” بالمعنى الغربي، ولا ثقافة خاصة بكل قطر من الأقطار العربية، فليس هناك شيء خاص بمصر أو العراق أو فلسطين أو الجزائر أو السودان إلخ …، بل جميع هذه الاقطار تشترك بثقافة واحدة، وعادات وتقاليد واحدة، وقيم واحدة إلخ …، هي ما نسميه “الوحدة الثقافية” المنبثقة من مفهوم “الأمة الواحدة” المبنية منذ أكثر من ألف عام.

لذلك عندما يتحدث المفكر العراقي عن “مواطنة عراقية” يكون حديثه عن لا شيء، أوعن شيء لا وجود له، ولا يتحقق على أرض الواقع، لأنه ليس هناك “وطن عراقي” يتميز عمن في جواره مثل: سورية والأردن وفلسطين ومصر والجزائر إلخ …

لذلك على العلماء والقادة التمسك بما هو موجود من روابط وهي رابطة “الأخوة الإسلامية” المنبثقة عن وجود “أمة إسلامية” تجمعها “وحدة ثقافية” تربط بين سكان المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، والبناء على هذه الرابطة، وعدم السعي وراء روابط غير موجودة لأن ذلك ليس من العقل والحكمة.

اترك رد