عن التيار القومي العربي والعودة إلى الديمقراطية

قاد التيار القومي العربي الأمّة بعد الحرب العالمية الأولى، وارتبط التيار القومي العربي آنذاك بالديمقراطية، وأقام تجارب ديمقراطية في مختلف الدول التي تكوّنت آنذاك: العراق وسورية ولبنان والأردن إلخ…، وكانت التجربة الأبرز في العراق الذي استقل مبكّراً في عام 1932م، والذي أصبح غنياً باستخراج النفط من أرضه، وكان القصد من تلك التجارب تحقيق بعض صور العدل السياسي، لكن لم يتحقّق شيء من ذلك، فلم ينجح التيار القومي العربي في إرساء النموذج الديمقراطي، ولا تقديم نموذج عادل للحكم، ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إنه لم يغرس أيّة تقاليد أو أعراف يُبنى عليها في مجال العدل السياسي، ثم زالت كل تلك التجارب بعد سلسلة الانقلابات التي وقعت في الخمسينات في مصر والعراق وسورية إلخ…

        ارتبط التيار القومي العربي بالاشتراكية في الستينات، وعمّ التزاوج بين التيارين القومي العربي والاشتراكية في معظم أنحاء الوطن العربي، وقامت زعامات ودول وأحزاب وبرامج على هذا التزاوج شمل كلاًّ من مصر والعراق وسورية واليمن والجزائر والصومال والسودان إلخ…، وكان القصد من التوجه الاشتراكي إقامة العدل الاقتصادي وتوزيع الثروة، وإزالة الفقر وإنهاء التباين الاقتصادي، لكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، بل كانت الاشتراكية وبالاً على الأمّة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ…، فقد قامت ديكتاتوريات من أعتى ما عرفه التاريخ العربي باسم الطبقة الكادحة وبدعوى ديكتاتورية البروليتاريا، وعمّ الفقر مختلف طبقات الشعب، وانحصرت السلطة والثروة بأيدي الأُسر الحاكمة ورجال المخابرات، وتفكّكت الأمّة وبرزت الروابط الطائفية والمذهبية كملاذٍ أخير هرباً من الضياع الذي أفرزه الاستبداد.

        والسؤال الآن: لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء قواعد العدل السياسي أو الاقتصادي في المجتمعات التي حكمها مع أنه استدعى الديمقراطية والاشتراكية من أجل تحقيق ذلك؟ لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء أيّة تقاليد ديمقراطية أو اشتراكية كما حدث مع شعوب أخرى في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية عند تطبيقها للديمقراطية أو الاشتراكية؟ السبب في ذلك هو أنّ الفكرة القومية العربية التي يستند إليها التيار القومي العربي فكرة لا تملك الحدّ الأدنى من المعقولية، ولا تقوم على أيّ أساس واقعي، فالتيار القومي العربي يزعم أنّ الأمّة الموجودة بين المحيط والخليج أمّة عربية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ والحقيقة أنه ليست هناك أمّة عربية تقوم على هذين العنصرين، بل هناك أمّة تقوم على الدين الإسلامي وهذا ما أدّى إلى أن تكون القومية العربية فقيرة ثقافياً بسبب استبعادها لعنصر الدين من تكوين الأمّة الموجودة من المحيط إلى الخليج، والذي لا مبرّر له إلا المماثلة بين القومية العربية والقومية الغربية التي تقوم على معاداة الدين. ولم ترتكب القيادات القومية هذا الخطأ وحده في صياغة مضمون الفكر القومي العربي، بل مارست دوراً خاطئاً على صعيدين: سياسي وثقافي، فعلى الصعيد السياسي حاولت أن تقيم الوحدة السياسية التي لم تتحقّق في التاريخ الماضي إلا في فترات محدودة، فكان عليها أن تدعو إلى صيغة سياسية فيدرالية تناسب الحاضر وتلائم الماضي. وعلى الصعيد الثقافي مارست القيادات القومية تمزيقاً وإضعافاً للوحدة الثقافية من خلال النقل الحرفي لمضمون الحضارة الغربية في مختلف المجالات: الفكرية والتربوية والاجتماعية إلخ…، والسبب في ذلك هو الفقر الثقافي في مضمون القومية العربية الذي أشرنا إليه سابقاً.

        إنّ عدم امتلاك الفكر القومي العربي للحدّ الأدنى من المعقولية، والفقر الثقافي الذي تعاني منه فكرة القومية العربية، وممارسة القيادات القومية الخاطئة على الصعيدين: السياسي والثقافي هو الذي عطّل مشاريع النهضة خلال القرن الماضي، وهو الذي أوصل الأمّة إلى الأزمة الحالية على كل الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفكرية إلخ…

        والآن: هل مارس التيار القومي العربي نقداً ذاتياً؟ هل راجع بنية الفكر القومي العربي؟ هل أعاد النظر في العوامل التي يقوم عليها بناء الأمّة؟ الحقيقة: لا، إنه لم يمارس نقداً ذاتياً، ولم يراجع أطروحاته وآراءه وأفكاره، إنما هو يعيد الآن ترتيب أوراقه من جديد، لعلّه يعلب دوراً قيادياً بالنسبة لجماهير الأمّة كالماضي، وهو من أجل تحقيق ذلك يقوم بعملية مزدوجة ذات شعبتين:

الأولى: المصالحة مع التيار الإسلامي: أقام التيار القومي العربي مصالحة مع التيار الإسلامي بدعوى أنه لا تعارض بين العروبة والإسلام، وأنّ التصادم السابق بين التيار القومي العربي والإسلامي خلال الخمسينات والستينات كان خطأً يتحمّل مسؤوليته الغلاة من الطرفين، وأنّ التيارين يكمّلان بعضهما، وهو يقصد من هذه المصالحة استعادة جانب من شعبيته التي خسرها بعد نكسة عام 1967م، وتبلورت هذه المصالحة بين التيار القومي العربي والتيار الإسلامي في المؤتمر القومي الإسلامي الذي عقد دورته الأولى في عام 1994م، ويتطلّع التيار القومي العربي إلى إرساء معالم مشروع حضاري من خلال لقائه مع التيار الإسلامي، وليس تحقيق أهداف سياسية فقط، وهو في هذا يعيش وهماً عميق الغَوْر، والسبب في ذلك أن أيّ مشروع حضاري لابدّ من أن يمتلك أفكاراً متّسقة، وهو لا يحقّق الحد الأدنى من الاتساق عندما يجمع القومية العربية بمضمونها الحالي مع حقائق الدين الإسلامي، فالقضية ليست قضية العروبة والإسلام كما يتصوّر التيار القومي العربي، فلم يكن هناك أيّ تصادم بين العروبة والإسلام في أيّة مرحلة تاريخية ماضية، بل كان الإسلام حاضناً للعروبة بمعناها الثقافي.

الثانية: العودة إلى الديمقراطية: رفع التيار القومي العربي شعار الديمقراطية وضرورة تطبيقها في واقعنا العربي، ويتضح ذلك في الندوات التي أقامها، والكتب والدراسات التي أصدرها أبرز ممثّلين للتيار القومي العربي وهما: مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي، فهل سينجح في إحياء الديمقراطية وفي إقامة العدل السياسي؟ لا أظنّ أنه سينجح في ذلك، حتى لو افترضنا صدق النية وبذل أقصى الجهد في السعي لتحقيق الديمقراطية، والسبب في ذلك عدم معقولية فكرة القومية العربية وعدم واقعيّتها وفقرها الثقافي، وهذه الأفكار لم يطرأ عليها أيّ تغيير ولم تحدث لها أيّة مراجعة، وهي -فيما أرجّح- الأفكار التي حالت دون أيّ نجاح للتجربتين: الديمقراطية والاشتراكية، وهي التي حالت دون أن تترسّخ أيّة تقاليد سليمة يبني عليها اللاحقون من أبناء الأمّة في مجالي العدل السياسي والاقتصادي.

عن التيار القومي العربي والعودة إلى الديمقراطية في موقع سعورس

اترك رد