تحدّثت في الحلقتين الماضيتين في دراستي عن عمرو خالد وبرنامج “صناع الحياة” عن معالجته لأربعة أخلاق في مشروعه النهضوي هي: الايجابية، والجدية، والإتقان، والإرادة. وبيّنت كيف أنّ معالجته لها تتراوح بين السطحية والخطأ، والأهم من ذلك عدم التوجّه إلى استلهام الإسلام والاستفادة من آلياته ورؤاه وأطروحاته في تطوير الشخصية المسلمة ودفعها إلى التعافي من كل ما تعانيه، وسأكتفي بهذه الأخلاق الأربعة كنماذج في معالجة قضايا أخلاق الفرد المسلم، وسأترك بقية الأخلاق التي تطرّق لها مكتفياً بما قدّمت لأنتقل إلى دراسة نوع آخر من القضايا التي أثارها عمرو خالد وهي مرتبطة بالنهضة من مثل: أهمية الوقت، واستخدام العقل.
أولاً: أهمية الوقت:
أشار عمرو خالد في الحلقة التي خصّصها للوقت عن أهمية الوقت وأنه لا قيمة له عندنا ودلّل على كل ذلك بإحصائيات منها: أنّ المواطن عندنا ينفق 36٪ من وقته في التلفزيون، و 28٪ في أشياء لا قيمة لها، وأنّ متوسط العمل لدينا 27 دقيقة، ومتوسط العمل في اليوم في الغرب من ست ساعات إلى سبع، وحثّ المشاهدين على تقسيم اليوم إلى أربعة مجالات نشاط: عمل، عبادة، رياضة، اجتماع، فدعا في مجال العمل إلى زيادة وقت العمل المفيد ودعا في مجال العبادة إلى القيام قبل الفجر بربع ساعة وإلى أداء ركعتين قبل الفجر والدعاء والذكر وتلاوة القرآن إلخ…، ودعا في مجال الرياضة إلى ممارستها بمقدار نصف ساعة في اليوم، ودعا في مجال التواصل الاجتماعي إلى تخصيص نصف ساعة للزوجة والأولاد والوالدين والأقارب إلخ…
ثم بيّن أهمية الوقت في الإسلام فذكر بأنّ الله أقسم بالوقت في سورة العصر لأهمية الوقت، ووضّح أنّ كل شيء مرتبط بالوقت في ديننا من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ونقل بعض الأقوال المأثورة من مثل: “أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود أبدا”، و ضرب أمثلة من التاريخ الإسلامي لبعض الشخصيات التي استغلت وقتها أروع استغلال من تاريخ أمّتنا القديم والحديث، ثم قدّم للمشاهدين نصائح تساعدهم على الاستفادة من الوقت وهي: تحديد الهدف، واستخدام ورقة الوقت التي يجدول فيها وقته ويكتب فيها ما يود عمله، ويكتب فيها جدول مواعيده، كما دعا مشاهديه إلى عدم صحبة الناس الفارغين، ودعاهم إلى محاسبة أنفسهم كل يوم
وإذا استعرضنا ما قاله عمرو خالد عن الوقت وجدنا أنه دار حول ثلاثة محاور
الأول: تشخيص ظاهرة إهدار الوقت أو عدم الاستفادة منه في مجتمعنا، وعقد مقارنات بين المجتمعين: العربي والغربي في استغلال الوقت.
الثاني: تقديم أدلة من القرآن والسنة على أهمية الوقت من مثل قسم الله تعالى به وتوضيح ارتباط العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج بأدقّ المواعيد المنبثقة عن حركتي الشمس والقمر، وتفصيل الحديث عن بعض النماذج التاريخية التي استغلت وقتها أروع استغلال إلخ…
الثالث: اقتراح الحلول والعلاج من مثل زيادة وقت العمل وتقسيم اليوم، وجدولته، وعمل ورقة الوقت وتسجيل الأعمال المراد تنفيذها والقيام قبل الفجر بربع ساعة إلخ…
وإذا ناقشنا المحاور التي دار حولها حديث عمرو عن الوقت، وجدنا أنّ الحديث عن الظاهرة ليس شيئا جديداً وأنّ كلامه في المحاور الثلاثة عن أدلة أهمية الوقت وعن الحلول المقترحة مماثل لكلام الوعاظ في المساجد، والخطباء في صلاة الجمعة، والأساتذة في المدارس، والمرّبون مع أتباعهم، والمحاضرون في ندواتهم إلخ… ومع ذلك فإن المجتمع مازال يعاني من الظاهرة نفسها لمدة قرن ويزيد، فلماذا لم تتعاف الأمّة للآن من هذه الظاهرة؟؟
السبب أنّ عمرو خالد لم يحاول أن يحدد العامل الرئيسي وراء وجود هذه الظاهرة لأنّ المعالجة تكون بتحديد العامل الرئيسي أو مجموعة العوامل التي أدّت إلى الظاهرة، ثم يوضع جدول الحلول بعد ذلك.
السبب الرئيسي الذي أدّى إلى إهمال الوقت وعدم استغلاله وضياعه هو فقدان الفرد عندنا الإحساس بذاته، وضعف الامتلاء المعنوي، ويكون العلاج بتنمية الإحساس بالذات، وتغذية الامتلاء المعنوي، ويؤكد ذلك أننا لو استعرضنا الأسباب التي تجعل الفرد الغربي مدركاً لأهمية الوقت، حريصاً على الاستفادة منه، لوجدنا ذلك نتيجة الإحساس بذاته ونتيجة الشعور بأهمية شخصه وبأنّ له وزناً وليس كمّاً مهملاً، وبأنّ له دوراً في مجتمعه ومحيطه ودولته، هذا الإحساس والشعور بالذات هو الذي يدفعه إلى الاستفادة من كل دقيقة من وقته.
ويؤكد ذلك أنّ مسلم العصور الماضية الذي كان يستغل وقته أحسن استغلال في الزمن الماضي كان يحس بذاته، وكان ممتلئاً معنوياً، وتجلّى ذلك الامتلاء المعنوي من خلال يقينه بعبوديته لله تعالى وهي تختلف عن أيّة عبودية أخرى، فهي عبودية لربّ عظيم قادر قيوم رزاق خالق قوي واسع مالك سميع بصير إلخ…، وتمنحه تلك العبودية شعوراً بالسعادة، وحرصاً على تنمية ذاته، وتوجِّهه لأداء دور كوني بالنسبة لكل الخلائق المحيطة وتدفعه كل تلك المهمات إلى الاستفادة من كل ثانية من وقته.
ومن العوامل الأخرى (1) التي ساعدت مسلم العصور الماضية على الامتلاء المعنوي -أيضاً- يقينه بأنه من أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو خير الرسل وأكرمهم وأشرفهم، لذلك فهو يحرص على سنته في عبادة الله تعالى وتطهير النفس، وهداية الناس، والصدع بالحق، والعدل بين المخلوقات، ويستفيد من كل جزئيات وقته لتحقيق ذلك
الخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها هي أنّ عمرو خالد لم يتوصل إلى حلّ مناسب لقضية إهمال الوقت عند المسلم المعاصر، والسبب في ذلك أنه لم يحدد العوامل التي ولّدت تلك القضية.
ثانياً: استخدام العقل
اعتبر عمرو خالد في حديثه عن استخدام العقل أنّ المسلم لا يريد أن يفكر في الوقت الحاضر، وهو لا يخترع، ونحن مقلدون ومستهلكون ولسنا منتجين، وعدّد أسباب ذلك فذكر أربعة أسباب:
ثم تحدّث عمرو خالد عن العقل في الدين الإسلامي فذكر أنه أكثر دين تحدّث عن العقل فوردت بعض الكلمات المرتبطة بالعقل والتفكير عدّة مرّات من مثل: “يعقلون”، “الأبصار”، “الحكمة”، “البصيرة”، “أفلا يبصرون”، “لقوم يتفكرون” إلخ…، ونقل بعض الأحاديث من مثل القول: “كيف عقل صاحبكم؟ إنما يتعاظم الناس يوم القيامة عند الله على قدر عقولهم” ومن مثل القول في الحديث القدسي: “بك أعطي “أي العقل” وبك آخذ، وبك أثيب، وبك أعاتب “(2) .
ثم تحدّث عمرو خالد عن المسلمين الأوائل وإبداعاتهم في مجال علم المثلثات والجبر واختراع الصفر وتشريح الجسم وتوصيف واكتشاف دودة الأرض وابتكار علم الاجتماع وعلم النحو وآلة التصوير إلخ…
ثم تحدّث عمرو خالد عن العوامل التي تؤدّي إلى تنمية القدرة على التفكير فحدّد أنها وجود هدف في الحياة والقراءة الكثيرة، والاحتكاك بالناس، وانتقاء مدخلات العقل، والقدرة على التحمّل، والاشتراك في مجموعات العمل.
وإذا استعرضنا ما قاله عمرو خالد نجد أنه تحدّث عن أزمة الإبداع عند المسلم المعاصر، فقدّم كلاماً عاماً عن العقل، واستفاد من الآيات و الأحاديث التي ورد فيها الثناء على التفكير و التدبّر والحضّ عليه، كما استفاد من التاريخ فتحدّث عن العلماء المبدعين وعن بعض المخترعات، لكنه لم يوفّق في حديثه عن أسباب أزمة الإبداع العقلي، لأنّ الأسباب التي ذكرها عمرو خالد ليست هي الأسباب الحقيقية لأزمة الإبداع، بل سببان منها وهي: أسلوب التعليم و أسلوب التربية القائمان على التلقي يدخلان في المشكلة التربوية للمسلم المعاصر، أما السببان الآخران وهما عدم انتقاء وسائل الإعلام للبرامج المفيدة لبناء العقل والفهم الخاطئ للدين، فهما نتيجة لأزمة الإبداع و ليسا سبباً لها. والسؤال الآن: ما هي الأسباب التي أدّت إلى أزمة الإبداع؟ هنالك عدة أسباب هي:
الأول: التصوّف الغالي الذي اعتبر أن التوصّل إلى الحقيقة يأتي عن طريق الكشف وليس عن طريق الاجتهاد العقلي مما أدّى إلى انعطاف أساسي في مسيرة العقل الإسلامي وتعطيل جانب من فاعليته وإبداعه وإطفاء جذوته، وبخاصة إذا عرفنا أنّ التصوف انتشر في كل أنحاء المجتمع الإسلامي وترسّخ في كل زواياه.
الثاني: اعتبرت بعض أصناف العقيدة الأشعرية أنّ الأسباب لا تفعل بذاتها إنما تفعل بإرادة الله تعالى، فالنار لا تحرق بذاتها والسكين لا تقطع بذاتها، إنما يحدث ذلك بإرادة الله تعالى، وهم يعطّلون مبدأ السببية الذي يقوم عليه العلم الحديث المرتبط بالتجربة، وهم عندما قالوا ذلك قصدوا الردّ على القائلين بقِدَم العالم وبقِدَم الأسباب، وهم عندما ردّوا الخطأ وقعوا في خطأ مقابل، فالأسباب ذاتها مع يقيننا بأنّ الله تعالى وراءها تدلّ على عظمة الخالق وليست بديلاً عن الخالق، وكما قال عنهم ابن تيمية عندما فعلوا ذلك لم يقيموا ديناً ولا دنيا(3) .
الثالث: انقسم التعليم في القرن التاسع عشر إلى نوعين من التعليم: مدني وشرعي، وبدأ محمد علي باشا ذلك في مصر في غمرة نقله النموذج الأوروبي، ثم تبعته الخلافة العثمانية في اسطنبول، وشكل ذلك شرخاً كبيراً في الكيان الثقافي للأمة، فقد كانت العلوم الدينية والدنيوية مترابطة خلال اثني عشرة قرناً سابقاً وكان يغذّي بعضها بعضاً، فعندما حدث ذلك الانقسام توقفت العلوم الشرعية عن النمو مما أدّى إلى اضطراب وضمور في حيوية العقل الإسلامي وفاعليته وإبداعه، وصرت تجد العالم المسلم المعاصر مطّلعاً على العلوم العصرية جاهلاً بالعلوم الشرعية أو العكس.
الرابع: تعرّضت الأمة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى عملية تغريب عاصفة كانت تستهدف استئصال الإسلام لكنها لم تنجح في ذلك، إنما نجحت في بلبلة الذات المسلمة واهتزازها، وأدّى ذلك إلى ضعف الأداء العلمي والإبداع العقلي.
والآن: كيف يمكن أن نحل أزمة الإبداع العقلي عند المسلم المعاصر؟؟
لابدّ من معالجة الأسباب السابقة ويكون ذلك بمعالجة التصوّف الغالي والعقيدة الأشعرية بدراسات حديثة والاستفادة من الدراسات القديمة في هذا المجال، أمّا بالنسبة لقضية التعليم المدني والشرعي فيجب أن يتوفّر العالم الذي يتبحّر ويتعمّق في العلوم الشرعية والعلوم العصرية.
في النهاية نقول أنّ المسلم المعاصر يعاني من مشكلة الإبداع العقلي، وهي المشكلة التي شخّصها عمرو خالد لكنه لم يقدّم حلولاً لها لأنه لم يوفّق في تحديد الأسباب الحقيقية، والآن يمكن أن نخلص إلى النتائج التالية من حديثنا السابق:
Lorem Ipsum