لقد وقع الاقتتال في غزة بين “حماس” و “فتح” على مدى الشهور الماضية خلال عام 2007 قبل اتفاق مكة في شهر شباط (فبراير) 2007 وبعده، ثم بلغ الاقتتال ذروته في 15 حزيران (يونيو) 2007 وسيطرت “حماس” على كل المقار الأمنية و الحكومية في غزة، وكنت قبلها قد كتبت مقالا حول ضعف المراجعات عند الحركة الإسلامية المعاصرة، واعتبرتها عاملا رئيسيا في فشل الحركات الإسلامية، لأنه أفقدها تكامل التجارب، ومنع عنها بناء اللاحق على السابق، وضربت امثلة على ذلك بعدد من التجارب الإسلامية المعاصرة منها: تجربة الجهاد الأفغاني، وتجربة جبهة الإنقاذ في السودان، ودعوت “”حماس”” في نهاية المقال أن تفعل جانب المراجعة والتقويم و الفحص، كما دعوتها إلى الانحياز إلى الأمة، والآن بعد الذي وقع في غزة في 15-7-2007 ما زال المطلوب من حماس أن لا تنجر وراء التحرير الموهوم الذي أنجزته “”فتح””، بل المطلوب أن تنشئ تحريرا حقيقيا يكون بداية للتحرير الكامل لفلسطين و للمنطقة كلها، وها نحن ننشر المقال السابق الذي أشرنا إليه تحت عنوان “على حماس أن تراجع مسيرتها لا كما فعلت الحركات الأخرى” في زاوية كلمة المشرف وفي زاوية “القضية الفلسطينية” فيه دعوة موجهة إلى “حماس” و الحركات الإسلامية المعاصرة بشأن المراجعة والانحياز إلى الأمة، ولا يمكن أن تستقيم أمور الحركات الإسلامية المعاصرة إلا اذا امتلكت مثل هذه الأدوات التي أشرنا إليها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لعبت الحركات الإسلامية دوراً أساسياً بارزاً خلال ربع القرن الماضي، وكان ذلك ثمرة الصحوة التي قامت في سبعينات القرن الماضي، وقد توصّل بعضها إلى الحكم، واصطدم بعضها بالأطراف الحاكمة في تلك البلدان، لكنّ الفشل كان هو الغالب على هذه المحاولات، ويمكن أن نضرب على ذلك المثل بكل من تجارب جبهة الإنقاذ في الجزائر، وتجربة طالبان في أفغانستان، وتجربة الإنقاذ في السودان، وتجربة المحاكم الإسلامية في الصومال، وها هي تجربة “حماس” وصدامها مع “فتح” يقفز إلى السطح، فهل ستنتهي إلى الفشل؟ ولماذا يتكرّر الفشل في أكثر من مكان؟
ربما كان أبرز عامل في تكرّر الفشل في التجارب هو غياب تراكم الخبرات الإيجابية فيها، فالمفترض في التجارب الإسلامية أن يكمل بعضها بعضاً، وأن يبني اللاحق على السابق، وأن يأخذ بصواب عمله ويتجنّب خطأه، لكننا نجد أنّ كل تجربة عمل إسلامية تبدأ من الصفر، وتكرر أخطاء سابقيها، وتقع في نفس الحُفَر، والسبب الرئيسي في ذلك هو غياب المراجعات والتقويم والنقد لكل تجربة على حدة. فلو أخذنا أقدم تجربة إسلامية معاصرة وهي تجربة الجهاد الإسلامي في أفغانستان، فقد بدأت هذه التجربة عندما جاء الحكم الشيوعي إلى أفغانستان في نهاية عام 1979، وتعتبر تجربة الجهاد الأفغاني من أغنى التجارب الإسلامية في اتساع الشرائح التي استقطبتها، وفي تنوّع الجماعات التي ساهمت فيها، وفي تفاعل العوامل المحلية والإقليمية والدولية معها، وحجم الآمال التي بُنيت عليها، إذا رصدنا المراجعات التي رصدتها ودرستها وقوّمتها أثناء الجهاد الأفغاني وبعده فسنجد الأمر مفجعاً، إذ سيتبيّن لنا أنّ المراجعات التي تحدّثت عن تجربة الجهاد الأفغاني أثناء وقوعه كانت صفراً بل كانت المراجع الفاعلة في الجهاد الأفغاني تحرّم أي نقد وتقويم بحجّة عدم التثبيط وعدم إثارة عوامل الفرقة، وأمّا المراجعات بعد انتهاء التجربة فهي قريبة من الصفر على المستوى العربي الإسلامي، وأهمّ المراجعات التي صدرت كانت بأقلام بعض الصحفيين والكتّاب الغربيين وبلغات أجنبية، مع أنّ واقع التجربة الأفغانية كان يعجّ بالفساد والاضطراب والفوضى في مختلف المجالات العسكرية والإدارية والقبلية والمذهبية والمالية إلخ…، وذلك يستدعي مئات الدراسات وليس العشرات حول تلك الأوضاع المضطربة.
ومن الملاحظ أنه إذا حدثت مراجعات لأيّة تجربة إسلامية، وقلّما يحدث ذلك فإنها تأخذ منحى شخصياً كما حدث في تجربة الإنقاذ في السودان، فقد اتهم جناح حسن الترابي الأطراف التي أزاحته عن السلطة بتمكّن شهوة السلطة عندها، وفي هذا تسطيح للموضوع وتبسيط، وفي هذا تزكية للنفس كان الأولى الابتعاد عنها، والاقتصار في الحديث عن الأسباب الموضوعية التي أدّت إلى التصادم، وإلى تمزّق السودان بعد ذلك.
والمشكلة في كل التجارب الإسلامية السابقة سواء أكانت في الجزائر أم في أفغانستان أم في السودان أم في الصومال إلخ… أنّ فشلها لا تنعكس آثاره على التنظيم الإسلامي وحده أو القائمين عليه، بل تنعكس آثاره على البلد كلّه وعلى المنطقة وعلى الأمّة بجملتها، فعندما خرج السوفييت من أفغانستان وحان قطف ثمرة الجهاد الأفغاني السابقة، نجد أنّ أفغانستان تقسّمت إلى عدّة مقاطعات بين نجيب الله وأحمد شاه مسعود وحكمتيار وسيّاف وربّاني إلخ…، ثم برزت طالبان وسيطرت على القسم الجنوبي من أفغانستان وبقي أحمد شاه مسيطراً على الجزء الشمالي منها، ثم انتهت ممارسات طالبان الفجّة بعد أحداث سبتمبر 2001 باحتلال أفغانستان من قِبَل أمريكا في نهاية عام 2001، وكانت النتيجة أنّ الخسارة لم تنحصر في تنظيم طالبان، بل انعكست الخسارة على كل أفغانستان وعلى المنطقة حولها، فقد أصبحت أفغانستان بلداً محتلاً من جهة، وأصبحت منطقة وسط آسيا الغنية بالبترول مرتعاً خصباً للتدخّل الأمريكي من جهة ثانية.
وكذلك السودان فبعد أن تصدّعت قيادة جبهة الإنقاذ في السودان إلى طرفين هما: طرف عمر البشير، وحسن الترابي، فالخسارة لم تتوقّف على ضعف جبهة الإنقاذ وتفكّكها بل تعدّت ذلك إلى تدمير السودان، فالواضح أنّ السودان يتجه في المرحلة القادمة إلى التجزئة والتقسيم، فها هو الجنوب الذي تتحكّم فيه جبهة جون جارنج يحتمل أن ينفصل عن الشمال في وقت قريب، وها هو المجتمع الدولي يقود فصل دارفور في الغرب، وستكون النتيجة انتهاء السودان الموحّد الذي كان أملاً للأمّة في أن يكون سلّتها الغذائية، وهذا هو الصومال لم تتوقّف الخسارة فيه على إقصاء جماعة المحاكم الإسلامية عن الحكم منه، بل تعدّتها إلى أن أصبح الصومال محتلاً من قِبَل أثيوبيا.
والآن نعود إلى “حماس” ونتساءل: هل ستنتهي تجربة الحكم التي بدأتها في كانون الثاني (يناير) عام 2006 عندما حصلت على أغلبية المقاعد التشريعية كما انتهت سابقاتها من التجارب الإسلامية، ليس بالخسارة عليها وحدها، بل بتراجع القضية الفلسطينية وهو الأهمّ؟ وكيف يمكن أن تتجنّب “حماس” ذلك وبخاصة أنّ شبح الحرب الأهلية بدأ يظهر من خلال ما نراه الآن مِن اقتتال بين فصائل “فتح” و”حماس”؟ الأرجح أنّ تفعيل المراجعة والتقويم والفحص لما سبق من وقائع وأفعال هو أحد الوسائل الناجعة لتحقيق ذلك، وإنّ أيّة مراجعة بسيطة لما سبق فستجد أنّ أبرز خطأ وقعت فيه “حماس” هو خوضها للانتخابات في ظلّ الاحتلال، فهي التي قادتها إلى أن تحاصر، ويحاصر الشعب الفلسطيني معها، إذ كيف تتوقّع أن تحصل على نتائج إيجابية في ظلّ دولة منقوصة السيادة إن لم نقل أنها معدومة؟ فعلى “حماس” وأنصارها أن يفعّلوا أدوات المراجعة والنقد والتقويم والفحص لكل الخطوات السابقة، والتوصّل إلى ما هو أنجع وأفيد، فقد يقتضي ذلك التخلّي عن الحكم والانحياز إلى الأمّة.