يحظى تقرير التنمية الإنسانية العربية باهتمام واسع في الأوساط العربية والدولية، وقد حمل هذا العام عنوان “نحو إقامة مجتمع المعرفة”، وقد انتهى برؤية استراتيجية من أجل إقامة مجتمع المعرفة، وقد تحدّث قبل ذلك عن جوانب متعلقة بالمعرفة من جوانب تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية إلخ….
وقد حدّد تقرير التنمية أهم ملامح الحضارة العلمية العربية والإسلامية والعوامل التي أقامتها، واعترف تقرير التنمية بأن
“عصر الازدهار العلمي العربي قد أنتج في سياقه التاريخي مجتمع معرفة بكامل معنى المصطلح، بمعنى قيام قدرة على إنتاج معارف جديدة، في جميع فروع المعرفة وعلى أعلى مستوى، وانتشار توظيف العلم بكفاءة في شتى مناحي الحياة”(ص،44).
ثم انتقل التقرير إلى توصيف النموذج المعرفي الراهن، فذكر بأنه تتجاذبه تيارات متعددة، تتفارق ولا تتلاقى.
وخلص إلى تحديد المعوقات المجتمعية التي تودي إلى الإحجام عن إنتاج المعرفة والبلدان العربية فقال:
“وتجدر الإشارة إلى أنه تقوم في اللحظة الراهنة معوقات مجتمعية تؤدي إلى الإحجام عن إنتاج المعرفة في البلدان العربية منها الصراع الثقافي بين تيارات سياسية على ساحة (أسلمة المعرفة) مثلاً، ومنها مناخ الاستبداد السائد في الدول العربية وضعف الإمكانات المخصصة لنشر وإنتاج المعرفة، ومنها قلة استعداد المفكرين في خوض أمور جوهرية تتعلق بالتاريخ والواقع معاً، وترددهم حيال إخضاع مجتمعنا وماضينا لنظر متأن مدقق، هذا على حين يجدر بنا مثلاً أن نعتبر قصة البحث في التاريخ العربي والتراث وتشجيع النظر العلمي والإصلاحي فيهما، أحد مفاتيح اقتدارنا على إنتاج المعرفة، وإنماء المقدرات الآيلة إلى مجتمع المعرفة. بل يتعين ألا يستبعد من نطاق النظر العلمي هذا أياً من سمات الأمة وقضاياها”(ص،46).
أصاب التقرير في تحديد بعض العوامل التي تؤدي إلى إعاقة إنتاج المعرفة، وأخطأ في بعضها الآخر، أما التي أصاب فيها فهي اعتباره أن مناخ الاستبداد وضعف الإمكانات المخصصة لنشر وإنتاج المعرفة من العوامل المعيقة لإنتاج المعرفة، أما التي أخطأ فيها فهي إشارته إلى قلة استعداد المفكرين للخوض في أمور تتعلق بالتاريخ وبالواقع، وهذا غير صحيح، وخير دليل على ذلك ما أثاره طه حسين في كتاب “في الشعر الجاهلي” حول الشعر الجاهلي والقرآن والكعبة واسماعيل وابراهيم عليهما السلام إلخ… وما أثاره علي عبد الرازق حول طبيعة الحكم الإسلامي، وما أثاره سلامة موسى حول اللغة العربية والمجتمع العربي والمرأة العربية إلخ…
ثم انتهى التقرير إلى توصيف النموذج المعرفي الراهن فقال: “النموذج المعرفي العربي، أو ما يسمى أحياناً “العقل العربي”، إذن برنامج أكثر مما هو واقع هو نموذج في طور التشكّل، وفي هذا نرى فرصة تاريخية لا يجب أن تفوّت. إذ تحسن البلدان العربية صنعاً بالعمل على توطين العلم والمعرفة لتكون دعائم أساسية للنموذج المعرفي العربي الآخذ في التشكّل”(ص،46). لاشك أن التقرير أخطأ خطأً منهجياً عندما اعتبر أن النموذج المعرفي الراهن برنامج أكثر مما هو واقع، صحيح أنه ليس هناك برنامج معرفي بالصورة المناسبة التي يراها واضعو التقرير أو غيرهم، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن هناك نموذجاً معرفياً، أو “عقلاً عربياً”، وهذا مرتبط بوجود الأمة، فطالما أننا نقرّ بوجود أمة عربية إسلامية، فذلك أننا نقرّ بوجود نموذج معرفي مرتبط بها، لكن هذا لا يتعارض مع اجتهادنا في تفعيل هذا النموذج المعرفي وتطويره. وهذا الخطأ الذي وقع فيه التقرير هو الذي وقعت فيه الأفكار السابقة عندما أرادت أن تغير الأوضاع بالاتجاه الليبرالي أو الماركسي أو الاشتراكي أو العلماني مع التجاهل التام لشخصية الأمة الحضارية التاريخية فكان نصيبها الفشل.
تكرر الحديث عن مقاصد الدين في أكثر من موضع من التقرير، منها: عند الحديث عن رد الاعتبار لدور الدين في التنمية الإنسانية، ومنها عند ذكر الشروط التي يجب توافرها في النموذج المعرفي العربي الأصيل” الأول يتمثل في العودة إلى الرؤية الإنسانية الحضارية والأخلاقية لمقاصد الدين الصحيحة”(ص،120). جاء تعامل التقرير مع مقاصد الدين بصورة لم تعهدها البيئة الإسلامية وكتب أصول الفقه على الإطلاق، وأبرزها كتاب “الموافقات” للشاطبي الذي أشار إلى أن ثمرة استقراء كل التكاليف التي جاء بها الأنبياء ستنتهي إلى خمسة مقاصد هي: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ النسل، بمعنى آخر إن تطبيق شرائع الأنبياء ستؤدي إلى حفظ هذه الأمور، والشاطبي أصّل “علم المقاصد” للرد على الذين يعتبرون أن الأحكام غير معلّلة، وأن الله لا يُسأل عما يفعل من جهة، وليبيّن أن أحكام الشريعة معقولة من جهة أخرى، وليستفيد المفتون من هذه القاعدة في بعض فتاويهم من جهة ثالثة، فالمقاصد -إذن- تتحقّق نتيجة تطبيق الدين وليس شيئاً سابقاً على تطبيق الدين.
درس التقرير العوامل السياسية التي أعاقت نمو المعرفة، وولادة مجتمع المعرفة فقال: ” فليس يخفى على أحد أن جملة البلدان العربية قد خضعت منذ عهود الاستقلال إلى أنظمة سياسية “وطنية” لم تستطع أن تتخلّى عن نزعات الاستبداد المنحدرة من عصور التاريخ القديمة والمتأخرة. فظل هامش الحريات محدوداً في مواطن، غائباً في مواطن أخرى”(ص،139). وصفت الفقرة السابقة الأنظمة التي حكمت جملة البلدان العربية بأنها ((وطنية)) والصحيح أنها ((وطنية قومية عربية))، لكن التقرير اعتبر كما يتضح من الفقرة السابقة أن نزعات الاستبداد التاريخية المنحدرة من عصور سابقة هي التي صرفتها وجعلتها تعيش ((مآزق قومية)) كما ذكر التقرير في صفحة تالية.
يعيد التقرير الاستبداد إلى سبب تاريخي، مع أن القيادات “الوطنية القومية العربية” التي قادت الأمة جاءت ثائرة على الاستبداد العثماني، حالمة بإنشاء مجتمع النهضة الذي تتحقق فيه العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، والسؤال الآن: لماذا لم تنجح القيادات “الوطنية القومية” في أن تتخلّى عن الاستبداد؟ وتنتج مجتمعاً خالياً من الاستبداد؟ هل السبب يعود إلى عوامل تاريخية -كما ذكر التقرير- أم يعود إلى الفكرة القومية العربية -نفسها-، وإلى عوامل تكوين القيادات القومية؟ أو قل بصورة أخرى: هل السبب موضوعي أم ذاتي أم مزيج من كليهما؟ لم يتعمق التقرير في دراسة هذه المسألة، والمفروض أن تكون دراسته أكثر إحاطة ودقة، بل اكتفى بإلقاء عدم نجاح القيادات القومية في إزالة الاستبداد على التاريخ، والحقيقة عند النظر المعمق إلى المسألة سنجد أن الذي يتحمل مسؤولية وجود الاستبداد واستمراره، ليس التاريخ وحده، بل طرفان آخران، هما: فكرة القومية العربية، وقياداتها القومية، أما القومية العربية فإنها تتحمل ذلك لأنها هي التي قادت الأمة لمدة قرن في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والنفسية إلخ…، وسنجد أن الاستبداد تولّد عندما اعتبرت القومية العربية أن الأمة تقوم على عاملي اللغة والتاريخ، واستبعدت الدين من عناصر تكوين أمتنا، فإن هذا الاعتبار جعلها تتخطى حقيقة ضخمة في حياة الناس وهي الحقيقة الدينية، وجعلها تلجأ إلى الاستبداد من أجل سد النقص في حجم التواصل مع جماهير الأمة، أما القيادات القومية فإنها تتحمل ذلك لأنها كانت قيادات نخبوية محدودة العدد، وأدّت بها هذه النخبوية المحدودية في العدد إلى أن تعوّض ذلك بالاستبداد من أجل ضبط جماهير الأمة. وخير دليل على ذلك أن حزب البعث الذي قاد انقلاب 1968م لم يتجاوز أعضاؤه بضع عشرات من الأشخاص مع آلة طابعة واحدة.
تحدّث تقرير التنمية في الفصل الأخير المعنون عن رؤية استراتيجية لبناء مجتمع المعرفة، وتحدّث عن أحد أركان هذه الرؤية فقال: “تأسيس نموذج عربي عام أصيل: منفتح ومستنير. أ – العودة إلى صحيح الدين وتخليصه من التوظيف المغرض وحفز الاجتهاد وتكريمه “(ص،171).
لقد استعمل التقرير عبارة “العودة إلى “صحيح الدين” وهذا يعني أن هناك “غير صحيح الدين”، وهذا التقسيم للدين لم يقل به أحد من السابقين أو المعاصرين، فعندما نقول هذا من الدين فهذا يعني أنه صحيح، وأنه يجب الاعتقاد أو العمل به، لكن تختلف مرتبة العمل به من الوجوب إلى المندوبية إلى الإباحة إلى الحرمة إلى الكراهة إلخ…، ويمكن أن تتّجه حكم الصحة والخطأ على رواية النص، فنقول إن هذا من صحيح المنقول أو من ضعيف المنقول أو من حسن المنقول أو من موضوع المنقول إلخ… فالقرآن كله من صحيح المنقول، لكن الأحاديث بعضها من صحيح المنقول، وبعضها من حسن المنقول أو من ضعيفه أو من موضوعه إلخ…
وإن هذا التقسيم الذي ابتدعه التقرير من تقسيم الدين إلى “صحيح الدين” و “غير صحيح الدين” جعله يصف النموذج المعرفي المطلوب بأنه “مستنير”، وبالتالي يبيح لنفسه قبول تأويلات ورفض أخرى بدعوى الاستنارة وعدمها، وهذا يفتح المجال ليدخل بعضهم ما شاء في الدين بدعوى الاستنارة، مع أن القبول والرفض يخضع لمعايير فصّلها علم أصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم الحديث والعلوم الأخرى المرتبطة بالنص القرآني، وليس من بينها المستنير أو غير المستنير.
خالص القول إن التقرير وقع في بعض الأخطاء المنهجية، ولم يتعامل مع بعض الأمور الدينية والشرعية تعاملاً سليماً وصحيحاً، ولم يحلّل دور الفكر القومي العربي الذي كان اللاعب الأول على مسرح الأحداث خلال القرن الماضي تحليلاً دقيقاً، لذلك جاء حديثه عن المأزق الذي تعيشه الأمة غير سليم، وجاءت تصوراته عن بناء النموذج المعرفي غير دقيقة في بعض جوانبها تبعاً لذلك، ومن الواضح أن التقرير جاء منحازاً إلى طائفة من المفكرين العلمانيين في بعض مقولاته وتعبيراته، مع أنه يفترض ألا يكون منحازاً لطائفة، بل معبّراً عن ثوابت الأمة جميعها.