عندما ضعفت الأمة في نهايات الحكم العثماني، وبدأ الغرب – في المقابل – يتقوّى، وحضارته تشق طريقها إلى الأمام. انعكس هذا الموقف على أمتنا فلاح خطر تغريب الأمة، وتجلّى في صورتين:
قلّد بعض المسلمين الغربيين، وتأثروا ببعض عاداتهم في الطعام والشراب واللباس إلخ…
ونقلوا بعض أنماط سلوكهم، وكان هؤلاء المقلدون كلما ازدادوا انغماساً في الحياة الغربية، وتفاعلاً مع صورها، وتكيفاً مع اهتماماتها، ازدادوا بعداً عن أمتهم، وانسلاخاً عن قيمها.
وقد نفذت العادات والتقاليد الغربية إلى عموم الناس بالتدريج، وما زالت مستمرة إلى الآن.
دعا بعض المسلمين إلى أخذ الحضارة الغربية بكل تفصيلاتها، واعتماد فلسفتها، وقيمها، كما دعوا إلى تعميم فنونها، والانحياز إلى ثقافتها، ونموذج تفكيرها الذي يقوم على تناقض العلم مع الدين. والأخذ بأساليب تربيتها وبكل نظمها في الحكم والسياسة والقانون والدستور، والأخذ بنموذجها الاقتصادي.
نادى دعاة الصورة الثانية بنقل الحضارة الغربية بكل جمالها وقبحها بكل حلوها ومرّها، وقد قام على هذه الدعوة آحاد من الناس وأبرزهم:
وللحقيقة فإن دعاة الصورة الثانية كان يقابلهم دعاة آخرون يتعاملون مع الحضارة الغربية تعاملاً متوازناً فيدعون إلى الحرص على ثوابت الأمة وأصولها والاستفادة في الوقت نفسه من ميزات الحضارة الغربية وإيجابياتها، وأبرز هؤلاء الدعاة:
العلماء المتخرجون من صروح المعاهد العلمية العريقة: كالأزهر والزيتونة.
هذا تلخيص سريع ومختصر لوضع الأمة إزاء التغريب في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لكن خطر تغريب الأمة الآن أشد من السابق بكثير وذلك لعدة عوامل:
أولها: تنوع وسائل الاتصال والإعلام من: سينما وإذاعة وتلفزيون وفيديو وكمبيوتر وإنترنت إلخ…، وسرعة انتشارها، وسطوة تأثيرها، وضخامة الانجذاب إليها.
ثانيها: اتساع القطاع الذي تخاطبهم تلك الوسائل وهم معظم الناس إن لم يكن كلهم: متعلّمهم وجاهلهم، غنيّهم وفقيرهم، صغيرهم وكبيرهم.
ثالثها: توقف الثقافة الدينية عن النمو منذ قرن ونصف تقريباً:
لقد توقفت ثقافتنا الدينية عن النمو وعلومنا الشرعية عن الازدهار وذلك لعدة أسباب منها:
استحدثت الخلافة العثمانية وزارة المعارف العمومية عام 1847م، لتدرس المناهج الغربية ولتعمل وفق النسق الغربي وبالذات فرنسا، وبالفعل فقد أنشئت مدارس في كل أنحاء الخلافة لتقوم بهذه المهمة.
وكان محمد علي باشا في مصر قد سبق الخلافة العثمانية بقليل عندما أنشأ تعليماً على غرار التعليم الأوروبي في عام 1820م، أشرف عليه أتباع سان سيمون الفرنسيون.
وقد التزمت الحكومتان في كل من إستانبول ومصر ألاّ توظّف – في حدود عام 1850م – إلاّ المتخرجين من المدارس غير الشرعيّة فقط.
وقد جاءت ضربة أخرى لنظم التعليم الدينية الشرعية على يد محمد علي باشا في مصر عندما أنشأ مدرسة القضاء الشرعي التي تخرج قضاة للمحاكم الشرعية في مصر، مما أُعتبر سحباً نهائياً للبساط من تحت التعليم الشرعي.
لقد بدأ ذلك محمد علي باشا ، فقد استولى على الأراضي الوقفية التي كانت تمد المساجد ومدارسها بالأموال اللازمة لها. وكانت تلك الأوقاف تبلغ خُمس الأرض المزروعة في مصر آنذاك.
استولى عليها بحجة أنه سينفق عليها بعد ذلك من أموال الدولة، وكان قد حدث الشيء نفسه في كل من تونس ومركز الخلافة العثمانية والجزائر.
علماً بأن الأوقاف كانت تمثل ربع ثروات العالم الإسلامي، وأن ثلث منازل العاصمة الجزائرية كانت حبوساً عند الاحتلال الفرنسي لها عام 1830م، وأن ربع الأرض الزراعية في تونس كانت أوقافاً كذلك عشية احتلالها.
إن سحب الأوقاف أضعف التعليم الديني وأفقده مصدر الإنفاق عليه مما أضعف مؤسساته التعليمية: المدارس والمعاهد والكتاتيب التي كانت تمد المدارس والمعاهد بما تحتاج إليه من دارسين.
نتج عن الأمرين السابقين وهما: إنشاء تعليم منافس للتعليم الديني، وسحب الأوقاف التي كانت تموّله وتغذّيه أن أصبحت المدارس والمعاهد والجامعات الملحقة بالمساجد كالأزهر والزيتونة ضعيفة الحيوية وذلك لعدم إقبال الناس عليها نتيجة عدم أخذ متخرجيها موظفين في الحكومة من جهة، وفقيرة لسحب الأوقاف التي كانت تمولها وتجعلها تستغني عن الحكومات من جهة ثانية.
إن هذا الضعف الذي كانت أسبابه ما ذكرناه سابقاً وغيره، جعل هذه الجوامع الإسلامية لا تستفيد من طفرة العلوم التي شهدتها الحضارة الغربية، لتلاحق الغرب، وتستكشف آفاق تطوره، وتستفيد من بعض الأمور الحقّة التي تَوَصَّل إليها، وتُطور نفسها بناءً على ذلك:
لم تقم بكل هذا نتيجة ضعف حيويتها، لذلك بقيت العلوم الإسلامية في كل المجالات كما كانت عليه قبل قرنين أو أكثر دون أي تغيّر.
ومما يؤكد ضعف حيوية هذه الجامعات الإسلامية أن معظم الإبداع الذي شهدناه في القرنين الماضيين كان خارج نطاق هذه الجوامع الإسلامية.
على ضوء الصورة السابقة، فما أبرز مخاطر تغريب الأمة؟
سيؤدي اصطراع القيم الوافدة والقيم الموروثة إلى ضياع قسم كبير من أبناء الأمة
وليس من شك بأن ضياع قسم من أبناء الأمة خسارة لنا في كل الموازين.
قد يؤدي التغريب ونجاحه ضمن الصورة التي عرضناها إلى فقدان أمتنا لهويتها، وتصبح مجرد تابع للغرب يدور في فلكه.
وهذا خطر حقيقي يهدد أمتنا ما لم تستدرك ذلك بزيادة عوامل مناعتها، وليس أدل على ذلك من قلّة حجم الإبداع الثقافي المساهم في الحضارة الإنسانية بالمقارنة مع دول وشعوب أخرى.
والسؤال الآن على ضوء المخاطر السابقة: ما سبل مواجهة التغريب والتغلب عليه؟
إن أفضل سبل مواجهة التغريب والتغلب عليه هي:
السبيل الأجدى هو تعميق انتماء المسلمين إلى أمتهم الإسلامية بزيادة معرفتهم بدينهم، وتمتين ارتباطهم بإسلامهم في كل مجال: في التربية، والاقتصاد، والاجتماع، والشّارع، والنادي، والمعهد، إلخ….
إن هذا التمتين للارتباط بالإسلام له حكمة أبعد من المحافظة على هويّة الأمة فقط هو إعطاء فرصة لأمتنا للمساهمة في إغناء الحضارة المعاصرة.
في أقل الأحوال إن لم يكن المساهمة في إنقاذها من أزمتها التي تحدّث عنها: كولن ويلسون، وشبنجلر، وتوينبي، وغارودي، وألكسيس كاريل، إلخ… فهي مرشحة لهذا بحكم الأصول والثوابت التي ورثتها من خلال رسالة الإسلام والتي لا مجال للتفصيل فيها فلهذا مقام آخر.
كما كان فقدان الأوقاف سبباً في ضعف العلوم والجوامع والمعاهد الإسلامية.
كذلك يجب أن يكون شعارنا في المرحلة القادمة إحياء هذه السنّة والإكثار من الأوقاف التي توقف على العلم والعلماء والأبحاث العلمية والمعاهد العلمية والجوامع التي تعتني بالعلوم الشرعية.
كما كان إيجاد المدرسة العصرية منافسة للمدرسة الشرعية سبباً في ضعف العلوم الشرعية وإيجاد نموذجين في حياتنا الاجتماعية :
علينا أن يكون هدفنا الذي نسعى إليه هو إلغاء هذه الازدواجية وإعطاء المتعلم المسلم حصيلة متوازنة من العلوم العصرية والشرعية.
وسيكون انتشار العلوم الشرعية فاتحة لتلاقح كثير من العقول وتفاعلها معها وبالتالي يصبح بالإمكان إعادة الحيوية إليها من خلال اتساع رقعة المتعاملين معها. وأن يكون هذا الاتساع معطياً الفرصة لمزيد من الإبداع، والمساهمة في حل الإشكالات المحيطة بالأمة حلاً مناسباً.
هذا هو الخطر الداهم الذي يهدد أمتنا أكثر من غيره، وهذه بعض وسائل مواجهته التي قد تكون أكثر جدوى وفائدة، والمجال مفتوح لمزيد من الرصد والمتابعة واقتراح الحلول والعلاجات المناسبة.