يندفع الإسرائيليون بشراهة للسيطرة على مدينة القدس. يبالغون في السرعة، ويبالغون في المطالب، ويبالغون في الوسائل. كانوا سابقا يستولون على الأرض، وأصبحوا يسعون في مرحلة لاحقة للاستيلاء على المباني، وها هم الآن يبذلون جهدهم للاستيلاء على الغرف. غرف المنازل وليس غرف الفنادق أو القصور أو الفيلات. ولا يجدون غضاضة في أن يدخلوا إلى بيت ما، ثم إلى غرفة في ذلك البيت، ويقولون: هذه الغرفة لنا. وليس من المستغرب أن يقولوا إن تلك الغرفة هي جزء من إسرائيل التاريخية، وربما أضافوا إلى ذلك القول بأن نبأها قد ورد في التوراة، وتكون النتيجة، عدوانية شرسة، وعنصرية ممجوجة، وتطهيرا عرقيا يطبق فرديا، وحرمانا لعائلة من السقف الذي يؤويها.
لقد تفنن الإسرائيليون في صياغة أساليب الاستيلاء، الاستيلاء على أي شيء كان، الأرض والشجر والبيوت والغرف. الاستيلاء على السهل والجبل والوادي والجرف. استنبطوا نظريات الأراضي الأمنية، وأراضي التدريب والمناورات، وأراضي الحدائق، وأراضي النفع العام. واخترعوا نظريات الطرد بواسطة الضرائب (الأرنونا)، حتى يستطيعوا الاستيلاء على أسواق القدس دكانا دكانا.
ويمكن لهذا التفنن الإسرائيلي أن يصاغ في نظريات، وأن يدون في كراسات وكتب، ولكن المعاناة الإنسانية تنمو بعيدا عن الكراسات والكتب، إنها تنمو على الأرصفة أمام المنازل، فالعائلة الفلسطينية تطرد من منزلها، فتقرر أن تسكن الرصيف. تضع فراشا، وتبني خيمة، وتسكن. ويأتي يوميا أفراد العائلة الإسرائيلية، ليمروا من جانب، أو ربما من فوق الأشخاص المطرودين من منزلهم. يمرون من دون أن يلقوا تحية الصباح، فلا مكان في العلاقة العجيبة القائمة بينهم لأي تحية. إن المكان مفتوح فقط للوقاحة (هوتسباه) من جهة، وللحقد من جهة أخرى.
أمام هذه الصورة الإسرائيلية الوقحة، وأمام أجزاء الصورة التي تعرضها كل تلفزيونات العالم، عن العائلة المطرودة من منزلها، وعن العائلة التي دخلت لتسكن مكانها، وعن العائلة التي أصبح الرصيف موطنها، وعن العائلة التي تأتي الشرطة الإسرائيلية لتطردها من على الرصيف، ولتمنع عنها آخر حق طبيعي لها، حق الاحتجاج، ذلك أن الإسرائيلي يريد ضحية مطواعة، لينة، متفهمة، خفيضة الصوت، وإلا فإنه يتهمها بالإرهاب.
أمام هذه الصورة بكل هذه التفاصيل المخيفة، بدأ الضمير الغربي يتحرك. جاءت الحركة الأولى من أقصى الشمال الأوروبي، من السويد التي تترأس الآن الاتحاد الأوروبي. قالت: لم يعد الصمت ممكنا، إن ما يجري في القدس لا يمكن قبوله لا سياسيا ولا إنسانيا. إنهم يطردون السكان بالعلن، وبالجملة، ويقولون إنه لا دخل للعالم بذلك، فالقدس جزء من إسرائيل، تم ضمها بعد أيام من احتلالها عام 1967. ولم يلحظ الإسرائيليون أبدا أنه لم يعترف أحد في العالم (باستثناء أعضاء الكونغرس الأميركي) بهذا القرار الإسرائيلي.
وتبين عبر موقف الاحتجاج السويدي، أن القناصل الأوروبيين في القدس، أعدوا تقريرا سريا، تسرب بعض ما فيه إلى صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، وجاء فيه أن الحكومة الإسرائيلية وبالتعاون مع بلدية القدس، تعملان بموجب «استراتيجية ورؤيا»، تهدف إلى تغيير الميزان الديموغرافي في المدينة، وإلى عزل القدس الشرقية عن الضفة الغربية. وذكر التقرير أن الحكومة والبلدية تقدمان المساعدات لجمعيات اليمين الصهيوني المتطرف من أجل السيطرة على المدينة، وتقدمان المساعدات أيضا لمؤسسات خاصة تعمل على امتلاك بيوت في الأحياء العربية.
وتحدث تقرير القناصل عن التمييز الذي يجري على الأرض ضد المواطنين الفلسطينيين، وأبرز مظاهر التمييز منع تقديم تراخيص بناء للعرب، وتقديمها بكرم زائد للمستوطنين، إذ بينما تحتاج القدس إلى 1500 رخصة بناء سنويا، تقدم إسرائيل لسكانها 200 رخصة فقط. وبينما تبلغ نسبة سكان القدس العرب 35% من السكان، تقدم لهم البلدية 10% فقط من الميزانية كخدمات.
وهناك أمور كثيرة أخرى يمكن ذكرها، مثل الحفريات التي تهدد المسجد الأقصى، وإغلاق المؤسسات الفلسطينية في المدينة، وتشجيع عنف المستوطنين وحمايته من خلال استنكاف الشرطة عن التدخل. ولكن الحدث المباشر الذي دفع القناصل للتحرك، كان إقدام إسرائيل على سحب الهويات الزرقاء من 4577 مواطن مقدسي خلال هذا العام، وهذا يعادل 21 ضعفا مما سحبته سنويا منذ بدء الاحتلال عام 1967. والهويات الزرقاء هي هويات «الإقامة» التي تعطى لسكان القدس الفلسطينيين وتتيح لهم الإقامة والتنقل في المدينة. وبهذا تتعامل إسرائيل مع سكان القدس وكأنهم مهاجرون، وهي لا تعتبرهم في القانون (مواطنين)، وإنما (مقيمين). وحسب القانون الإسرائيلي تسحب الإقامة إذا غادر المقيم إسرائيل لمدة سبع سنوات، أو إذا حصل على إقامة دائمة في دولة أخرى.
وهناك من يقول إن هذا الذي يجري في القدس الآن، هو تعبير عن سياسة نتنياهو اليمينية المتطرفة، ولكن الصحف الإسرائيلية كشفت أن التحضير لعملية سحب الهويات بهذه الأعداد الكبيرة قد بدأ أيام حكم حزب «كديما» (إيهود أولمرت وتسيبي ليفني)، وأن وزير الداخلية مئير شتريت، وهو من حزب كديما، هو الذي قام بعملية الفحص للأشخاص الذين يمكن سحب هوياتهم. الأمر الذي يبرهن أن ما يجري هو سياسة إسرائيلية مستديمة، تنفذها أحزاب اليمين والوسط واليسار، فهي كلها، الأحزاب التي تستولي على الأراضي، وتمول الاستيطان، وتطرد السكان، وتعرقل أي نوع من التسوية السياسية مع الفلسطينيين والعرب، وتستعد بعد ذلك لشن الحروب.
وتبين بعد الإعلان عن تقرير القناصل في القدس، أنهم وضعوا مجموعة اقتراحات للتخفيف من وطأة السياسة الإسرائيلية في المدينة، ومواصلة التحرك الأوروبي ضد تلك السياسة، ومن نوع: الحرص على عقد اجتماعات مع القادة الفلسطينيين في القدس. والحرص على عدم عقد اجتماعات مع المسؤولين الإسرائيليين هناك. ورغم النوايا الطيبة التي تكمن وراء مثل هذه الاقتراحات، إلا أنها تبدو جزئية جدا، وهناك حاجة إلى اقتراحات من نوع آخر، أوروبية وفلسطينية أيضا.
الاقتراحات المطلوبة من الأوروبيين لا بد أن تشمل كل مناطق الاستيطان الإسرائيلي، فكلها حسب القانون (قانون الحروب ـ قانون اتفاقية جنيف الرابعة) غير شرعية، ولم يعترف بها أحد في العالم. وإذا كان منطلق الحديث هو القدس وما يجري فيها، فالمشروع الإسرائيلي في القدس متعدد الجوانب، فهو يشمل تكبير المدينة التي يراد السيطرة عليها لتصبح منطقة كاملة تسمى (القدس الكبرى). وهو يشمل أيضا المستوطنات التي تم بناؤها حول القدس لتطبق عليها، ولتغلق باب التوسع الجغرافي على الأحياء العربية، وتبقي باب التوسع مفتوحا على الأحياء (المستوطنات) الإسرائيلية.
وهو يشمل أيضا ما يسمى بـ(الحوض المقدس) الذي يمتد من القدس إلى القرى المجاورة لها. وهو يشمل ما تحت الأرض، أرض المسجد الأقصى بالذات، حيث تجرى الحفريات بحثا عن هيكل لم يجد أحد حجرا واحدا منه حتى الآن. كل ذلك يجري في القدس، وفي القدس الكبرى. وحين يتم استنكار ما يجري في القدس، فلا بد بعد ذلك من استنكار ما يجري في القدس الكبرى.
وهنا يأتي دور الاقتراحات المطلوبة من الفلسطينيين، فلقد أصبح في حكم المسلم به بالنسبة للمسؤول الإسرائيلي، أن المفاوضات مع الفلسطينيين ستتضمن بندا يسمونه (تبادل الأراضي). وقد آن الأوان لشن حملة سياسية وإعلامية تقول إن فكرة (تبادل الأراضي) قد تم التخلي عنها فلسطينيا، لأن تبادل الأراضي أصبح يعني على أرض الواقع، التخلي عن مدينة القدس، أو قبول إطباق المستوطنات الإسرائيلية عليها.
لقد تسرب مفهوم (تبادل الأراضي) خلسة إلى أجواء المفاوضات التي فشلت، وحين تم الإعلان عن فشلها، سحبت كل العروض من على الطاولة، وبقي عرض فلسطيني واحد، تمسك به الإسرائيليون وكأنه حقيقة مسلم بها، وهو عرض تبادل الأراضي الذي آن الأوان لإعلان التخلي عنه عمليا ومبدئيا. وسيشكل مثل هذا الموقف دعما فعليا للتحرك الأوروبي «الخجول»، ولعله يساعد على رفع مستواه.