كان النهوض حلم الأمة في مطلع القرن العشرين، لكن ذلك الحلم لم يتحقق لأسباب متعددة أحدها خطأ الفكر القومي العربي في تحليل واقع الأمة وتشخيصه، ويمكن أن نمثّل على ذلك بما كتبه ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي عندما اعتبر أن الأمة العربية الإسلامية تقوم على عنصري:اللغة والتاريخ، واعتبر أن اللغة روح الأمة والتاريخ ذاكرتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل توصّل ساطع الحصري إلى ذلك نتيجة استقراء واقع أمتنا في مطلع القرن العشرين، فأوصله ذلك الاستقراء إلى تلك النتيجة أم أنه كان يترجم واقع أمم أخرى؟
الحقيقة أنه كان يترجم واقع أمم أخرى وبالذات الأمة الألمانية التي اعتبر مؤرخوها أنها قامت على عنصري اللغة والتاريخ، وهما اللذان ميّزاها عن الأمم الأخرى، ولكن الاستقراء لواقع أمتنا التي تحدث عنها ساطع الحصري تجعلنا نقول:
إنها قامت على عنصرين آخرين غير اللذين تحدث عنهما ساطع الحصري، وهما: القرآن والسنة، ومما يؤكد ذلك أننا نرى أثرهما في مختلف مجالات حياة الأمة من عقائد وعادات وتقاليد وتطلعات وآمال وسلوك وفنون إلخ. . .
فهما اللذان شكّلا ثقافة الأمة، وهما اللذان رسما تصورها عن الكون والحياة والإنسان، وهما اللذان وضعا قواعد مشاعرها، وهما اللذان دفعاها إلى المزاوجة بين عمارة الدنيا والتطلع إلى الآخرة، وهما اللذان أسسا عاداتها وتقاليدها، وهما اللذان ساهما في إنشاء أوقافها الغنية، وهما اللذان شكّلا منظومتها الأخلاقية، وهما اللذان كوّنا مصدر تشريعاتها، وهما اللذان رسّخا قواعد الأسرة فيها، وهما اللذان رسما ملامح فنونها، وهما اللذان وضعا أسس اقتصادها، وهما اللذان صاغا بناءها النفسي، وهما اللذان كوّنا بناءها العقلي إلخ…
ومن الصعب أن نفهم العنصرين اللذين جعلهما ساطع الحصري والفكر القومي العربي الأصل في بناء الأمة وهما: اللغة والتاريخ إلا في ضوء القرآن والسنة، فقد كانت هناك عدة لهجات عربية في الجزيرة العربية قبل نزول القرآن الكريم ، وكان يمكن أن تتطور كل لهجة لتكون لغة مستقلة وبالتالي كان يمكن أن تنشأ عدة لغات عربية في الجزيرة العربية نتيجة وجود اللهجات المختلفة للقبائل لكن القرآن الكريم عندما كتب بلسان قريش، جعل الديمومة والهيمنة لهذه اللهجة على غيرها من اللهجات مما أنشأ لغة عربية واحدة وقضى على إمكانية نشوء عدة لغات عربية، وقد أكد عثمان t هذا المعنى عندما قال للرجال الذين نسخوا عدة نسخ من المصحف الذي كان موجوداً عند حفصة بنت عمر زوج الرسول r وأرسلها إلى مختلف الأمصار، عندما قال لهم : “إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم” (رواه البخاري).
ثم إن الرعاية التي رعاها المسلمون للغة العربية كانت انطلاقاً من ظروف دينية، فعندما وضع أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو وأتم ذلك سيبيويه في مصنفه “الكتاب”، وعندما نقّط حروف العربية وشكّلها كلٌّ من أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي، وعندما وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي أصول معاجم اللغة، وعندما جمع العلماء مفردات اللغة ومعانيها في معاجم لغوية، إنما قاموا بكل تلك هاتيك الأعمال من أجل إبعاد التحريف واللحن عن آيات القرآن الكريم، ومن أجل فهمهما الفهم الصحيح.
ومما يؤكد الدافع الديني وراء تلك الخدمات الجّلى التي قدّمها أولئك الرجال النوابغ الذي ألممنا بذكر طرف بعض منهم وأغفلنا في الوقت نفسه الكثير، مما يؤكد الدافع الديني وراء جهودهم أن قسماً كبيراً منهم ليسوا عرباً وليس لسانهم العربية، إنما اهتموا بالعربية وأفرغوا جهودهم للمحافظة عليها وضبط ألفاظها انطلاقاً من دينهم وإسلامهم.
أما التاريخ وهو العنصر الثاني من عناصر تكون الأمم حسب قول الحصري فمرتبط بالقرآن والسنة، فقد ثار الصراع بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين في الجزيرة العربية حول حقائق القرآن والسنة، وقامت الأمة بالفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين من أجل نشر الإسلام القائم على القرآن والسنة، ونشأت الفرق الدينية والسياسية نتيجة الاختلاف حول أحكام القرآن والسنة، وقامت الدول المتعددة من أجل خدمة القرآن والسنة، ونشأت العلوم من أجل المساعدة في استنباط الأحكام من القرآن والسنة ومن أجل إثبات الحقائق التي تحدث عنها القرآن والسنة، ونشأت مؤسسة الحسبة لتنفيذ حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرّر في القرآن والسنة إلخ…
عجز الفكر القومي العربي عن تحقيق الأهداف التي رسمها في مطلع القرن العشرين وأبرزها الوحدة العربية، ولو تفحصنا ذلك العجز لوجدناه مرتبطاً بخطئه في تحليل عناصر قيام الأمة، والذي أدى إلى محدودية نظرته وإغفاله العناصر الأخرى التي تدعم الوحدة العربية وأبرزها الوحدة الثقافية، مما تسبب في وقوع الأمة في مخالب التغريب، لذلك لم تقم الوحدة العربية فحسب، بل على العكس من ذلك ترسخت القطرية، وبرز تهديد حقيقي -لأول مرة- في تاريخنا بأن تتحول الكيانات السياسية إلى أمم مستقلة، وتتقاطع بشكل رئيسي مع كيان الأمة الأصلي.
بالإضافة إلى عجز الفكر القومي العربي عن تحقيق هدف الوحدة عجز عن تحقيق هدف آخر هو الحرية، وذلك بسبب فقر محتواه الثقافي الذي لم يستطع أن يعالج الاستلابات والاضطرابات والمشاكل التي كان يعاني منها الإنسان العربي في مطلع القرن العشرين بسبب كثير من الموروثات العقائدية والاجتماعية والسياسية إلخ… لذلك بقي هدف تحقيق الحرية شعاراً سياسياً أكثر منه تحريراً حقيقياً للإنسان والمجتمع.
أما هدف الرفاه الاقتصادي فبقي هدفاً بعيد المنال وذلك بسبب تذبذب الفكر القومي العربي بين التيارين: الرأسمالي والشيوعي، فهو بدأ بتبني التوجهات الرأسمالية في مطلع القرن العشرين كحرية السوق وحرية التجارة والانفتاح الاقتصادي إلخ…، ثم انتقل فجأة في الستينات في القرن العشرين إلى تبني الطروحات الشيوعية الاشتراكية في الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا والتأميم الشامل إلخ…، إن هذا التذبذب يشير إلى سطحية تحليل الفكر القومي العربي لواقع الأمة الموضوعي حيث انتقل من النقيض إلى النقيض، لأنه لم ينتقل بناء على تحليل واقع الأمة الاقتصادي، بل انتقل متأثراً بالعلاقات السياسية التي توسعت مع الاتحاد السوفييتي في ستينات القرن العشرين وتقلصت مع الدول العربية.
الخلاصة: عجز الفكر القومي العربي عن تحقيق أي هدف من أهداف الأمة في الوحدة والحرية والرفاه الاقتصادي بسبب محدودية عناصره التي أقام الأمة عليها، وفقر محتواه الثقافي، وسطحية تحليله لواقع الأمة الموضوعي.