tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

المطلوب خطوة الى الأمام باتجاه التأثير الإسلامي في العروبة

رداً على المكتب الإعلامي في “المؤتمر القومي العربي” لا لم أظلم التيار القومي العربي وإليكم الدليل:

ردّ المكتب الإعلامي في “المؤتمر القومي العربي” بتاريخ 29/9/2005 على مقال سابق لي، فهو بدلاً من أن يناقش ماطرحته من أفكار، أو يجيب على أسئلتي التي طرحتها في ثنايا المقال، لجأ المؤتمر القومي العربي إلى شخصنة الموضوع في بعض الأحيان، وأبرز مثال على شخصنة الموضوع هو إثبات المؤتمر القومي العربي معقولية فكرة القومية العربية بحمل جمع من الكتّاب والمناضلين والمواطنين لها.

والحقيقة أنّ كثرة النّاس ليست هي التي تعطي الصواب والخطأ لفكرة ما، بل هناك مقاييس أخرى لمعرفة خطأ الفكرة وصوابها، وقد قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حكمة في هذا الصدد:

“لا تعرفوا الحق بالرجال، ولكن اعرفوا الحقّ ثمّ اعرفوا أهله”

وأمر آخر هو أنّ الإنسان يمكن أن يكون معقولاً في جوانب من أفكاره وآرائه، وغير معقول في جوانب أخرى، فالماركسيّ مثلا معقول في تحليله الاقتصادي للواقع وفي إيمانه بصراع الطبقات، وغير معقول في عدم إيمانه بغريزة التملك وبعدم وجود إله إلخ…، فبعض المفكرين القوميين كانوا معقولين في مقولات أخرى، ولكنّهم ليسوا معقولين في الموقف من القومية العربية.

        إنّ الفكرة القومية العربية لم تملك معقوليتها لأنها لم تنطلق من الواقع، بل انطلقت من مقايسات بإنزال مفهوم القومية الألمانية على واقعنا، في حين أنّ أدنى تفحّص للأمّة الموجودة من المحيط إلى الخليج في مطلع القرن العشرين يدرك أنّ الدين عنصر رئيسي من عناصر تكوينها وبنائها إن لم يكن العنصر الوحيد، ذلك لأنّ الدين يدخل في البناء الثقافي للنّاس، وفي عاداتهم وتقاليدهم، وفي فنونهم، وفي تشكيل أذواقهم، وفي صياغة آمالهم وأحلامهم، وفي بنائهم الفكري، وفي تشكيل نفسياتهم، وفي صياغة أهدافهم إلخ… فكيف يمكن القول بأنّ الأمة تقوم على عنصري اللّغه والتاريخ فقط معقولاً ومقبولاً مع إنكار هذا الدور الضخم للدين الإسلامي في تشكيل الأمّة وفي صياغتها؟؟

        وعند التدقيق في عنصري اللغه والتاريخ اللّذين تقوم عليهما الأمه حسب النّظرية القومية الألمانية نجد أنّهما مرتبطان بالدّين الإسلامي ارتباطاً وثيقاً، فكون هذا القرآن الكريم معجزة الرسول الكبرى، وكونه يحتوي كلام الله، جعله في موقع الصدارة من اهتمامات المسلمين، لذلك اهتموا بلغته، وبحفظه، وبمعنى آياته، وببيانه، وتفسيره، ومناحي إعجازه… ولما كان ذلك كله مرتبطاً باللغة العربية جاء الاهتمام باللغة العربية، ولم تعد اللغة العربية لغة القرآن الكريم فحسب بل أصبحت لغة العبادة والصلاة والعلم، مما جعلها لغة الأمة الإسلامية، ثم أصبحت لغة الحضارة الإسلامية، وانتقل تأثيرها إلى لغات الأقوام التي دخلت الإسلام، فأصبح الحرف العربي هو الذي تكتب به اللغة التركية واللغة الفارسية واللغة الهندية إلخ…، ودخلت كثير من ألفاظ اللغة العربية إلى لغات المسلمين الأخرى، كما أصبحت اللغة العربية هي لغة التفاهم بين كل شعوب الأمة الإسلامية.

من الواضح أنّ القرآن الكريم هو الذي حفظ اللغة العربية، فقد كانت هناك عدّة لهجات عربية في الجزيرة العربية قبل نزول القرآن الكريم، وكان يمكن أن تتطوّر كل لهجة لتكون لغة مستقلة بالتالي كان يمكن أن تنشأ عدّة لغات في الجزيرة العربية نتيجة وجود اللهجات المختلفة للقبائل، لكنّ القرآن الكريم عندما كتب بلسان قريش، جعل الديمومة والهيمنة لهذه اللهجة على غيرها من اللهجات مما أنشأ لغة عربية واحدة وقضى على إمكانية نشوء عدّة لغات عربية، وقد أكّد عثمان -رضي الله عنه- هذا المعنى عندما قال للرجال الذين نسخوا عدّة نسخ من المصحف الذي كان عند حفصة بنت عمر زوج الرسول r وأرسلها إلى مختلف الأمصار، عندما قال لهم:

“إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم” (صحيح البخاري).

        ثم إنّ الرعاية التي رعاها المسلمون للعربية لغة القرآن الكريم كانت انطلاقاً من ظروف دينية، فعندما وضع أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو، وأتم ذلك سيبيويه في مصنفه “الكتاب”، وعندما نقّط حروف العربية وشكّلها كل من أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي، وعندما وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي أصول معاجم اللغة، وعندما جمع العلماء مفردات العربية ومعانيها في معاجم لغوية، إنما قاموا بكل هاتيك الأعمال من أجل خدمة القرآن الكريم من أن يدخله التحريف واللحن، ومن أجل خدمة آيات القرآن الكريم أن تفهم على الوجه الصحيح. ومما يؤكد الدافع الديني وراء تلك الخدمات الجلّى التي قدمها أولئك الرجال النوابغ أن قسماً كبيراً منهم ليسوا عرباً وليس لسانهم العربية، إنما اهتموا بالعربية وأفرغوا جهودهم للمحافظة عليها وضبط ألفاظها انطلاقاً من دينهم وإسلامهم. 

        أمّا التاريخ فقد كان مرتبطاً ارتباطاً كاملاً بالدين الإسلامي فقد قامت الفتوحات من أجل نشر الدين الإسلامي، وقامت الدول من أجل تطبيق شرائعه، وتكوّنت حركات الزندقة والقومية من أجل التشكيك في عقائد الدين الإسلامي وقيمه، وقام المجتمع الإسلامي على التوحيد والأخوة الإيمانية وإعمار الدنيا إلخ…، ونشأت الفِرَق من خلال الاختلاف على فهم معنى النّص القرآني والحديثي، ونشأت العلوم الدنيوية كعلم الفلك من أجل حساب الأشهر العربية وتحديد مواقيت رمضان والحج، ومن أجل حساب مواقيت الصلاة في مختلف المدن وتحديد اتجاه القبلة، كما نشأ الجبر وعلوم الرياضيات من أجل حساب المواريث والخراج إلخ…، وقام الاقتصاد في المجتمع الإسلامي على المبادئ الإسلامية من زكاة وصدقات وأوقاف ومحاربة الربا إلخ… وخلاصة الأمر أنّ التاريخ مرتبط ارتباطاً كاملاً بتفصيلات المبادئ والقِيَم والتوجيهات والأخلاق التي رسمها الإسلام في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والفنية إلخ…

        أما الفقر الثقافي في القومية العربية فقد جاء عندما استبعدت الفكرة القومية العربية الدين الإسلامي من تشكيل الأمة الموجودة من المحيط إلى الخليج، واستبعدت بالتالي كل دور للدين الاسلامي في البناء الثقافي والفكري والنفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للفرد والمجتمع وأورَث هذا الاستبعاد عجزاً عند التيار القومي العربي في طرح حلول لمشاكل الأمّة، ودَفَعَه إلى نقل الحلول من الحضارة الغربية، وإلا فبماذا نفسّر تحوّل حركة القوميين العرب إلى الفكر الماركسي واعتبار هذا الفكر مرجعيتها الرئيسة وإغفالها الكامل للفكر القومي العربي في نهاية الستينات؟ أليس الفقر الثقافي الذي أشرنا إليه سابقاً؟ والإ فبماذا نفسر سيادة المفردات الماركسية في الستينات لدى مختلف التيارات القومية، من مثل التفسير المادي للتاريخ وصراع الطبقات، وديكتاتورية البروليتاريا، والعنف الثوري إلخ… غير الخواء الفكري؟؟؟

        ولو عدنا إلى المرحلة القومية بعد الحرب العالمية الأولى فإننا نجد أن الدول القومية قامت بنقل النموذج الغربي الليبرالي بحذافيره من مثل النظام الديمقراطي، والنظام الرأسمالي، والبنوك الربوية، والعلمانية إلخ…، دون مراعاة شخصية الأمّة وتراثها وقيمها المغروسة، ولو تساءلنا عن السبب في الانزلاق في النقل الحرفي للتجربة الغربية لما وجدنا غير الفقر الثقافي سبباً لذلك.

        والآن: ماذا كانت نتائج المرحلتين السابقتين الليبرالية بعد الحرب العالمية الأولى والاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية؟ كانت النتائج إضعاف الوحدة الثقافية وبخاصة في المرحلة الاشتراكية عندما راجت مقولات التحليل الماركسي التي تعلن بأنّ الدين أفيون الشعوب، وبأنه سبب التأخّر والتخلف والانحطاط، لذلك لابّد من اقتلاعه من حياة الناس من أجل تحريرهم من الأوهام والخرافات.

        أشار المكتب الاعلامي إلى أنّ التيار القومي العربي يحقّق مصالحة مع التيار الإسلامي، وقد جاءت هذه المصالحة نتيجة نقد ذاتي، والحقيقة إنّ التيار القومي العربي بدأ يتحدث عن فضاء حضاري إسلامي في الثمانينات، وعن دور للدين الإسلامي في إقامة هذا الفضاء الحضاري الإسلامي، وهي خطوة متقدّمة في حين أنّ هذا الحديث كان محرّماً أو خافتاً في الستينات، لكنني مازلت أميل إلى أنّ مثل الاعتراف بالحضارة الاسلامية لا يكفي لأن يضع الأمور في نصابها الصحيح، لأنّ جوهر الفكر القومي العربي يقوم على قصر قيام الأمة على عنصري اللغة والتاريخ، وأرى أنّ النقد الذاتي المثمر يجب أن يؤدّي إلى اعتراف الفكر القومي العربي بأنّ الدين الإسلامي عنصر رئيسي من عناصر تكوين هذه الأمة بالإضافة الى اللغة والتاريخ، وطالما أنّ الفكر القومي لم يحدث مثل هذا التغيير في صلب نظريته القومية، فسيبقى هذا التحوّل دون المستوى المطلوب، وسيبقى دون تأثير جدّي في مساره العملي.

        تحدث المكتب الإعلامي عن اعتراف بعض الأفكار القومية بالعلاقة بين العروبة والإسلام، وعن تجاهل بعضها الآخر لهذه العلاقة وهذا صحيح، لكن هذا الاعتراف بقي دون أثر حقيقي طالما أنّه لم يستفد من المضمون الثقافي للعروبة والإسلام وإدخالهما في النسق الفكري للقومية العربية، والسبب الذي حال دون تلك الاستفادة ذلك هو الأدلجة التي اتجهت إليها الفكرة القومية العربية لتكون بديلاً عن الدين في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى.

        في النهاية، المطلوب من التيار القومي العربي إذا أراد أن يتجنّب أخطاءه السابقة، وأن يبني علاقة صحية مع التيار الإسلامي، وبعد حديثه عن الفضاء الحضاري الإسلامي أن يخطو خطوة إلى الأمام، ويعترف بأنّ الدين الإسلامي عنصر رئيسي من عناصر بناء الأمّة العربية، ومن الصحيح أنّ هذه الاعتراف بدور الدين الإسلامي يعتبر تخطّياً لكل نظريّات القومية المطروحة: الألمانية، والفرنسية، والاستالينية، لكنه اعتراف في الاتجاه الصحيحة لأنه مطابق لواقع أمّتنا، هذا هو التحدّي الحقيقي أمام التيّار القومي العربي، فهل هو فاعل؟

____________________________________________________

* نشر هذا المقال في جريدة “الحياة” بتاريخ 10/12/2005م

اترك رد