من المؤكد أنّ نظام العولمة سيحمل الديمقراطية إلى عالمنا العربي كأبرز معطياته، ولما كانت الديمقراطية ليست جديدة علينا كل الجدة، بل لنا تجربة قديمة معها تعود إلى مطلع القرن العشرين في أكثر من بلد عربي، فيستحسن أن تكون لنا وقفة مع أعرق التجارب الديمقراطية في عالمنا العربي وهي تجربة مصر، نستعرض صورتها ومسارها وأسباب فشلها قبل أن نلجها مرة ثانية من خلال العولمة القادمة إلينا.
استعمرت بريطانيا مصر عام 1882م، وخاضت الحرب العالمية الأولى ضد الخلافة العثمانية، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى قامت ثورة 1919م وقادها سعد زغلول، وأفرزت تلك الثورة ديمقراطية وديمقراطيين، فلنر بعض ملامح تلك الديمقراطية، ولنر سيرة بعض أولئك الديمقراطيين.
لقد تجسّدت الديمقراطية في دستور عام 1923م الذي أفرز برلماناً، ومنح الحريات للشعب وسمح بتشكيل الأحزاب، وصدرت الصحف المختلفة، وترأس سعد زغلول العائد من المنفى الوزارة عام 1924م، ثم ترأس البرلمان عام 1926م، وقد استمرت الديمقراطية والانتخابات وصراع الأحزاب والحريات الصحفية إلى عام 1952م عندما ألغى جمال عبدالناصر تلك المرحلة.
لقد آمن بالديمقراطية بعض أهالي مصر، وأبرز أولئك المؤمنين عباس محمود العقاد الذي ساهم بكل قواه في ثورة 1919م، وانخرط انخراطاً كاملاً في معاركها، وقد قرّبه سعد زغلول خلالها، واحترمه كاتباً ومفكراً ولقبه بـ “جبار المنطق”، وأطلق له عنان الحرية في الكتابة والنقد، فحرّر صحيفة “البلاغ”. وصل العقاد نائباً إلى البرلمان الذي ترأسه سعد زغلول عام 1926م، وألقى خطاباً عميقاً في عام 1928م تحت قبة البرلمان قال فيه: “إنّ الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه” ملمحاً إلى محاولة الملك فؤاد تعطيل دستور عام 1923م، وقد حاولت السلطات النيل منه، لكنها لم تستطع للحصانة البرلمانية التي كان يتمتع بها. وقد أصدر في هذه الفترة كتاب “الحكم المطلق في القرن العشرين” مفنّداً وجهات النظر المعادية للديمقراطية، ثم عطلت وزارة إسماعيل صدقي الدستور عام 1930م، فشن العقاد عليها حملة صحفية قاسية مما جعل الحكومة تقدمه للمحاكمة بتهمة النيل من الذات الملكية فصدر الحكم عليه، وأمضى تسعة أشهر في السجن، ولما خرج توجه إلى قبر سعد زغلول وألقى هناك قصيدة قال فيها:
وكنت جنين السجن تسعة أشهر وها أنذا في ساحة الخلد أولد
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهما سيعهدني كلٌّ كما كان يعهد
وقد دافع العقاد في كتابه المذكور آنفاً “الحكم المطلق في القرن العشرين” عن الديمقراطية فكتب فصلين تحت عنوان: “هل فشلت الديمقراطية؟” “لم تفشل الديمقراطية” فند فيها آراء المعادين للديمقراطية، فاعتبر أنّ الاستبداد المطلق كان مقدّساً في زعم أتباعه ومريديه، وانتقل هذا التقديس إلى الديمقراطية، واعتبر العقاد أنّ هذا أحد الأسباب المصطنعة للشك في حقيقة الديمقراطية، ثم ذكر العيوب التي يثيرها معادو الديمقراطية وأولها أنّ عيوب الحكومة الشعبية مكشوفة ذائعة الاستفاضة وليس لها حجاب كذلك الحجاب الذي كانوا يسترون به عيوب الحكومات المستبدة، ثم يوضح العقاد أنّ مجرد القول أنّ الشعوب لا تصلح للديمقراطية لدليل على أنها درجة عالية يجب أن تتوجه إليها آمال المصلحين وطلاب الكمال، ثم يقر العقاد بأنّ للديمقراطية عيوباً ولكنها عيوب الطبيعة الإنسانية التي لا فكاك منها، ويوضح العقاد أنه لا يصح أن نقيس الديمقراطية بمقياس الأغراض التي أعلنها دعاتها والآمال التي عقدوها عليها، وإنّما تقاس مزاياها بالضرورات التي أدت إليها أولاً ثم بالفوائد التي نجمت عنها فعلاً ولا تزال تنجم: فهي قد أوجدت للعصبيات الحزبية مخرجاً غير الفتن الدموية، وأقنعت الشعوب بأنّ عليها تبعة في الحكم، وأنها قادرة على تبديل الحكام، ثم يؤكد العقاد في فصل “لم تفشل الديمقراطية” إنها لم تفشل ولا ظهر إلى الآن من آثارها إلا ما يدل على نجاحها ثباتها وأنها ستكون أساساً للحكم في المستقبل تبنى عليه قواعد الحكومات ويرجع إليه في إصلاح ما سيحتاج منها إلى الإصلاح.
وقد آمن العقاد بالفرد وحريته وهو الوجه الآخر من إيمانه بالديمقراطية، لذلك أعجب العقاد في مرحلة مبكرة من حياته الفكرية بفلسفة شوبنهور وهي الفلسفة التي تعطي الفرد قيمة كبيرة، وترى الوجود خلال صورته لدى الإنسان. وتكميلاً لإيمان العقاد بالفرد يرى أنّ الذاتية هي الغاية من الرقي، وأنّ الرقي إنما هو الانتقال من وجود مبهم سائب إلى وجود ذات، إلى وجود يعلم ذاته. ويؤمن العقاد بحقيقة الخصائص الفذة لكل كائن من الكائنات، وحقيقة المميزات الفريدة التي تجعل منه واحداً لا يشاركه آخر في وحدانيته، فمثلاً يستحيل أن تصادف فردين متشابهين تمام التشابه لا يفرقهما شكل أو حجم أو لون، وقل ذلك عن عالم النبات والجماد، ناهيك عن عالم الحياة والأحياء.
ويعتبر العقاد نفسه وجودياً إذا كان معنى الوجودية إنصاف الضمير الفردي وتقديس الإنسان المستقل بفكره وخلقه، وقد امتدح العقاد في كتاب “فلاسفة الحكم في العصر الحديث” مذهب الحريين، ودعا العقاد في كتاب آخر “القرن العشرون ما كان وما سيكون” إلى حماية الفرد من طغيان الجماعة، وتهيئة الأجواء المناسبة لأن تتجاوز مواهبه ضغوط المجتمع الصناعي الحديث، وندّد العقاد كذلك في كتاب “فلاسفة الحكم في العصر الحديث” بالحكومات الجماعية التي تخيف الفرد، وتسحق حريته، واحتقر الجماعة الظاعنة، وأزرى بالرؤوس المنحنية، وفنّد حجج الديكتاتوريات والديكتاتوريين.
ويرفض العقاد المذهب الذي يجعل الفرد نتيجة منفعلة وليس بسبب فاعل في الحوادث التاريخية، ويعتقد أنّ المذاهب التي تعيد نبوغ الأفراد إلى العوامل الاجتماعية مذاهب مبالغ فيها وهو ما جنح إليه الاشتراكيون على الخصوص لأنهم يردون العوامل كلها إلى المجتمع وعناصر تكوينه ومعيشة أبنائه. وينتهي من ذلك إلى أنّ الفرد شيء والعوامل الاجتماعية شيء آخر، ومن قال إنّ الفرد لا يهم فقد أنكر الغاية من إصلاح المجتمع، لأنّ كل إصلاح لا ينتهي إلى الاهتمام بالأفراد فهو إصلاح تركه وإنجازه سواء. ويؤمن العقاد بأنّ مسيرة التاريخ تؤكد على الذات، وتنتقل بالفرد من الإبهام إلى الوضوح، ومن الفراغ إلى الامتلاء، ومن عدم المسؤولية إلى التبعات الثقيلة، ومن غموض الشخصية إلى وضوحها، ويقيس العقاد رقي الأفراد والمجتمعات باحتمال التبعات.
ولم يتوقف العقاد عند الإيمان بالفرد وعند الإيمان بالنظام الديمقراطي بل تعداه إلى المنافحة عنهما ومواجهة النظم التي تهدّدهما وأبرزها: الشيوعية والنازية. فكتب في الرد على الشيوعية عدة كتب منها: “الشيوعية والإنسانية، أفيون الشعوب: المذاهب الهدامة”، وأما النازية فكتب في الرد عليها “هتلر في الميزان” الذي قارن فيه بين النازية والديمقراطية في مجالات التقدم، والأخلاق، وحل المشكلات، والنظام، والصحة، والتربية إلخ…، ثم خلص فيه إلى تفوق الديمقراطية على النازية في حل كل تلك المشكلات، ويدعو في فصل “قضية الغد” إلى وقوف مصر إلى جانب بريطانيا التي تقود المعسكر الديمقراطي، والجدير بالذكر أنّ الكتاب الأخير “هتلر في الميزان” كاد أن يكلف العقاد حياته مرتين، الأولى: عندما كان في زيارة لفلسطين، فقد أطلق عليه النار شاب من معادي انكلترا ومؤيدي ألمانيا عند باب الفندق الذي كان ينزل فيه. والثانية: عندما وصل رومل إلى العلمين في الحرب العالمية الثانية، فهرب العقاد إلى السودان لأنه كان أول الأشخاص الذين كان سيطالهم الإعدام عند احتلال الألمان لمصر نتيجة هجومه على النازية وتأييده للديمقراطية.
واستمر العقاد مؤيداً للديمقراطية بعد سقوطها في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، فكتب العبقريات التي تناولت عشرات الأشخاص مثل: محمد صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أجمعين ، وفرنكلين، وغاندي، وفرانسيس بيكون، وبرناردشو إلخ… دفاعاً عن العظمة الإنسانية في وجه الأنظمة الجماعية: النازية والشيوعية والإسلامية، ليؤكد صحة أفكاره في أولوية الفرد في التاريخ، وأحقيته كمحرك له وليطعن في جدوى التنظيمات الجماعية، ويشكك في دور العوامل الاجتماعية والاقتصادية في توجيه الأشخاص، وليبرز دور الموروثات العصبية والفيزيولوجية في تحديد مصيرهم.
هذه لمحة سريعة عن الديمقراطية وعن الديمقراطيين في مصر، وإنّ أول أسس النجاح لأي نظام أو فكرة أو عقيدة وجود المؤمنين بها، وما أظن أنّ الديمقراطية ستفرز في المستقبل شخصاً يؤمن بها كإيمان العقاد لشدة ما رأينا من منافحته عنها وتضحيته في سبيلها. ومع كل هذا الزخم الذي أحاط بتجربة مصر الديمقراطية والعوامل المساعدة لنجاحها لكنها فشلت، والسؤال الآن: لماذا فشلت؟
الفشل في تقديري يعود إلى أنّ الأحزاب التي انبثقت عن ثورة 1919م وأبرزها حزب الوفد اعتبرت الشعب في مصر أمة فرعونية، مرتبطة بالفراعنة، وذات جذور فرعونية، واعتبرت المرحلة العربية الإسلامية مرحلة طارئة يجب تجاوزها، ومما يبرز ذلك أنّ أحمد لطفي السيد والملقب بـ “أستاذ الجيل” وأبرز شخصيات تلك المرحلة لم يوافق على الدستور الذي طرحه جمال عبدالناصر بعد انقلاب 1952م وأجاب عليه بـ (لا)، لأنّ الدستور يعتبر الشعب المصري جزءاً من الأمة العربية.
لاشك أنّ مثل هذا التوجه لأحزاب ثورة 1919م مخالف لواقع مصر الموضوعي في كل تفصيلاته الاجتماعية والفكرية والنفسية والعقلية والفنية إلخ…، ومما يؤكد ذلك أنّ نظرة فاحصة إلى أخلاق الشعب المصري وعاداته وقيمه وتقاليده ومعاملاته وأذوقه وآماله وآلامه ومحرماته ومحللاته إلخ… نجد أنها جميعاً مرتبطة بالإسلام والعربية وليس لها أدنى ارتباط بالفرعونية. صحيح أنّ الفرعونية مرحلة لها آثارها الضخمة الباقية على أرض مصر من معابد وأهرامات وتماثيل، لكن هذه المرحلة ليس لها أدنى أثر في الواقع الموضوعي لمصر الآن.
إنّ التنكر لواقع مصر الموضوعي، وعدم تحديد هوية مصر التحديد الصحيح هو الذي جعل تجربة مصر الديمقراطية تفشل، وكذلك يمكن أن نحكم مسبقاً على التجربة الديمقراطية الآتية مع العولمة بالفشل إذا لم تكن نقطة البداية مراعاة الواقع الموضوعي للأمة والبناء عليه.
إنّ الانطلاق من الواقع الموضوعي ليس ترفاً وليس حذلقة إنما هو ضرورة حقيقية من أجل النجاح، ويؤكد ذلك نجاح تجربة إسرائيل الديمقراطية التي انطلقت من واقع يهودية شعب إسرائيل فظهر ذلك في الدستور والقوانين والاقتصاد والتشريعات الاجتماعية والأعياد والأحزاب إلخ… .
تجربة الديموقراطية في مصر بعد الحرب العالمية الاولى من موقع سعورس