درس بعض الباحثين الاستبداد الذي عرفه تاريخنا، فكان الاستبداد السلطاني أبرزها، وقد عرفت أمتنا في القرن العشرين استبداداً حديثاً هو الاستبداد القومي، فبماذا اتفق هذا الاستبداد القومي مع الاستبداد السلطاني؟ وبماذا اختلف عنه؟
اتصف الاستبداد السلطاني بعدة صفات، أنه استبداد لا يعرف المشاورة، فكان المستبد لا يشاور أهل الحل والعقد والمعرفة والخبرة في القضايا التي تواجهه، ولا يعرف المشاركة فكان المستبد ينفرد في السلطة دون أهل عصبيته الذي ساعدوه في التمكين، ولا يعرف الشرعية لأن المستبد في الغالب يأتي عن طريق الغلبة والقوة وفرض الأمر الواقع إلخ…
عرف الاستبداد القومي كل صفات الاستبداد السلطاني السابقة، فالاستبداد القومي لا يشاور غيره في أخطر الأمور فحسب، بل لا يخبر أحداً، فصدام حسين لم يخبر إلا اثنين بغزو الكويت هما: صهره حسين كامل حسن، وابن عمه علي الكيماوي، وكذلك السادات لم يعلم أحداً بعزمه زيارة القدس عام 1977م غير حسن التهامي، ناهيك عن المشاورة بخصوص خطوة استراتيجية ومؤثرة في مسار المنطقة برمتها.
والاستبداد القومي لا يعرف المشاركة فصدام حسين انقلب على عبد الرزاق النايف وإبراهيم الداود أبرز شريكين للتكارتة بعد أسبوعين من ثورة 17 تموز/يوليو 1968م، ثم صفى أهل عشيرته ومحازيبه واحداً تلو الآخر في ثورة 17 تموز/يوليو 1968م واحداً تلو الآخر، ثم ألزم أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية كبير التكارتة بالاستقالة عام 1979م بعد أن احتمى بظله أحد عشر عاماً ليحل مكانه في رئاسة الجمهورية، كما قتل قسماً كبيراً من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث في تموز عام 1979م من أجل السيطرة الكاملة على الحزب، كما قتل كثيراً من أهل عشيرته في تكريت، وقتل صهريه، وأزاح أخوته من أمه: برزان ووطبان وسبعاوي وأبقى ثقته في قسم من عشيرته في تكريت وهم بعض أولاد عمومته.
والاستبداد القومي لم يعرف الشرعية، بل كان يأتي في أغلب الأحيان عن طريق الدبّابة، فمن المعلوم أن صدام حسين جاء عن طريق انقلاب عسكري على عبد الرحمن عارف في عام 1968م، ثم جاء بميشيل عفلق – الأب الروحي لحزب البعث – من البرازيل وأعطاه اعتباراً خاصاً لعلّه يكسب جناحه شيئاً من الشرعية في مواجهة البعثيين اليساريين.
عرف الاستبداد القومي كل شرور الاستبداد السلطاني السابقة وزاد عليها فناً جديداً هو استبداد القهر والجبر، وقد هذا الفن الجديد من الاستبداد نتيجة الفقر الثقافي الذي قامت عليه ايديولوجيا القومية العربية، حيث اعتبرت الأمة تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، ونتيجة نخبوية الأحزاب القومية وقلة المنتسبين إليها، فلم يتجاوز البعثيون الذين قفزوا إلى الحكم عام 1968م بضع عشرات من الأعضاء مع آلة طابعة واحدة.
قسم الاستبداد السلطاني المجتمع إلى مراتب وطبقات، فهناك الطبعة العليا والطبقة الوسطى وطبقة السفلة، وحدّد الاستبداد كيفية تدبير كل طبقة بما يناسب مكانتها: فالطبقة العليا في حاجة إلى رأفة الملك، والوسطى إلى إنصافه، أما الطبقة السفلى فلها الخوف، وحافظ الاستبداد القومي على مراتبية المجتمع بصورة مناسبة له، فجاء في أعلاها: التكارته العسكريون السنة البعثيون، ثم ضاقت هذه المراتبية حتى انحصرت في عائلة “البوناصر” من عشيرة صدام، أما الخوف فكان طاغياً ومراسه صدام حسين مع كل مراتب المجتمع حوله.
والاستبداد القومي التقى مع الاستبداد السلطاني في الحرص على أبهة الملك، فعشرات القصور التي بناها صدام تشهد على ذلك، والبذخ في احتفالات عيد ميلاد صدام تؤكد ذلك حيث يلبس “فارس العرب” البزّة البيضاء، ويركب عربة فاخرة موشاة بالذهب، وشعبه يعاني أمر الأوضاع الاقتصادية.
وافترق الاستبداد السلطاني عن الاستبداد القومي في أن الأول حقّق للأمة بعض الانتصارات على مستوى الخارج، وحافظ على كيانها على مستوى الداخل، فقد استطاع الزنكيون والأيوبيون والمماليك إنهار الوجود الصليبي في بلاد الشام ومصر، كما استطاعوا إيقاف الغزو المغولي في معركة عين جالوت في فلسطين، كما استطاع السلاطنة العثمانيون إيقاف الزحف البرتغالي-الأسباني الذي استهدف الجزيرة العربية بعد طرد العرب من الأندلس. لكن الاستبداد القومي حقق الانهيار الكامل للأمة في أي مواجهة مع العدو، وخير ما يشهد على ذلك حرب العرب مع اسرائيل عام 1967م مع اسرائيل، وحرب العراق مع قوات التحالف عام 2003م، حيث انهارت جيوش ثلاثة دول عربية هي مصر وسورية والأردن في ستة أيام، كما انهار الجيش العراقي أمام قوات التحالف خلال ثلاثة أسابيع، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الخواء النفسي والمعنوي والروحي الذي يعيشه الفرد في هذا الاستبداد القومي، فهو قد أفرغه من كل محتوياته الثقافية السابقة، ولم يستطع أن يملأه بشيء.