tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

قراءة في بعض أحاديث محمد حسنين هيكل على قناة الجزيرة

هناك مجال طويل للحديث عن محمد حسنين هيكل وأحاديثه، ولكني سأقتصر الآن في التعليق على بعض أحاديثه الأخيرة وهي التي خصّها لنكسة 67، وأسماها (طلاسم 67)، وحاول أن يلقي الضوء في هذه الأحاديث على الظروف التي رافقت نكسة 67 من أحداث سياسية وعسكرية ودولية وعربية ومخابراتية الخ…، ومهّد لذلك بالحديث عن أمن مصر، وذكر أنّ أمن مصر مرتبط بما يحيطها، وأنّ الدفاع عنها يبدأ من حدود غزة، والمستمع لهيكل يشعر بأنه يحاول أن يقلّل من مسؤولية عبد الناصر والقيادات المتنفّذة معه عن النكسة التي وقعت في هذه الحرب، وهو من أجل أن يحقّق ذلك يتحدّثت بأسلوب في منتهى الذكاء والتظاهر بالموضوعية، فهو يحاول أن يعيد النكسة إلى عدّة أمور سبقت مجيئ انقلاب عبد الناصر، منها:

  • عدم وجود جيش وطني ومؤسسة عسكرية ذات تاريخ تراكمي في مصر.
  • عدم وجود شعب مقاتل في مصر.
  • عدم وجود دولة في مصر.

وقد وضّح الأمور السابقة بشكل متفرّق، فهو في بداية حلقاته عن نكسة 67 ذكر أنّ مصر لا تملك جيشاً وطنياً ذا تقاليد عسكرية وعقيدة قتالية، وليس ذا خبرة تراكمية مكوّنة من عدّة أجيال متتابعة، واعتبر غياب مثل هذا الجيش عاملاً رئيسياً من عوامل الهزيمة في 67، وذكر أنّ محمد علي باشا توجّه في القرن التاسع عشر إلى إنشاء جيش وطني، لكنّ هذه المحاولات انتهت إلى الإفشال من قوى خارجية، أمّا في القرن العشرين فذكر أنّ أحد أمراء أسرة محمد علي باشا هو الذي اهتم بفكرة إنشاء جيش وطني لكنّ ذلك لم يتحقّق، وهو قد اعتبر أنّ الجيوش الوطنية العريقة ذات التاريخ التراكمي تستفيد في أوقات الأزمات مما اختزنته من عقائد قتالية وخبرات دفاعية، ومثّل على ذلك بالاتحاد السوفييتي الذي انتصر جيشه على الغزو الألماني في الحرب العالمية الثانية، وأعاد ذلك إلى المخزون التراكمي الذي اختزنه الجيش منذ القياصرة، وهيكل في هذا الكلام يتناسى الجوانب المعنوية التي اضطرّ أن يعود ستالين لها في مواجهة ألمانيا النازية، وهو أنه ترك الكنائس تفتح أبوابها، وهو في هذا يخالف مبادئة الماركسية التي تتنكّر للدين، وأعاد ستالين القول بالوطنية الروسية، وهو في هذا يخالف الأُممية التي تقوم عليها دولته من أجل استثارة الشعب الروسي للدفاع عن أرضه وبلده. يتناسى هيكل هذه العوامل المباشرة التي فعلتها الدولة الشيوعية، والمتناقضة مع مبادئها من أجل تحريك الشعب وهي أولى بالاعتبار والتقديم في تحويل المعارك في الحرب العالمية الثانية من المخزون التراكمي الذي أشار إليه هيكل، ولماذا نذهب بعيداً؟

ولنأخذ اسرائيل وهي الدولة التي انتصرت على عبد الناصر مثالاً قريباً، فأين الجيش الوطني ذو التقاليد العسكرية العريقة والعقيدة القتالية الراسخة؟ من أين لها ذلك؟ وهي الدولة التي لم يتجاوز عمرها العقدين فقط، وجيشها خليط من شعوب متعدّدة، وهل يمكن أن نقارن جيش اسرائيل بجيش مصر في هذا الأمر؟ لاشك أنّ جيش مصر أعرق، وتقاليده أرسخ، ومقدرته القتالية أمضى. إنّ سبب هزيمة مصر ليس فقدانها الجيش الوطني ذا التقاليد الراسخة، فهزيمتها جاءت لأسباب أخرى، وهذا ما سنجد جوابه في فقرة تالية, ويدل على ذلك انتصار اسرائيل وجيشها الذي لا يملك هذه الصفة.

أمّا الأمر الثاني الذي اعتبره هيكل من أسباب هزيمة 67 فهو أنّ شعب مصر شعب غير مقاتل، وليست لديه تقاليد قتالية، وأنّ الذين كانوا يقاتلون عنه هم أطراف خارجية، ولهذا كانت هزيمة حزيران !!! وهذا الرأي من أغرب الآراء التي يمكن أن تُقال، أو يُتحدّث فيها عن شعب مصر، وهو الذي كان عاملاً رئيسياً في هزيمة التتار، وفي هزيمة الصليبيّين، وهما أعتى هجمتين على الأمّة الإسلامية.

وكما قارنّا في فقرة سابقة بين جيش مصر واسرائيل كذلك سنضطر -الآن- أن نقارن بين شعب مصر وشعب اسرئيل، فنسأل: هل شعب اسرائيل الذي انتصر كان أكثر عراقة من شعب مصر في القتال؟ وهل كان يملك تقاليد قتالية أكثر من شعب مصر؟ لا أظنّ أنّ أحداً يمكن أن يقول ذلك، بالعكس فإنّ الله قد أخبرنا في القرآن الكريم بأنّ اليهود هم الذين خذلوا موسى عليه السلام فقالوا له: “”اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ”” (المائدة،24)، وكذلك بقي هذا الخُلُق متأصّلاً فيهم بعد موسى عليه السلام فقال تعالى: “”أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ”” (البقرة،246)، أبعد قول الله تعالى يجوز أن يكون هناك قول؟ ليست القضية -إذن- كما يزعم هيكل بأنّ شعب مصر ليس شعباً مقاتلاً، ولكنّ هناك أسباباً أخرى حالت بين مصر وبين الانتصار في المعركة، فلنبحث عنها.

أمّا الأمر الثالث الذي اعتبره هيكل أحد أسباب نكسة 67 فهو عدم وجود دولة، وذكر أنّ هناك حكومات وملوكاً سابقين وأمراء وسلاطين، ورؤساء وزراء، ووزراء، وبرلمانات إلخ…، ولكنّ كل هذه الأسماء والمسمّيات لا تعني وجود دولة، وهو ما تفتقده مصر، وقد أشار إلى وجود هذا العامل ودوره في النكسة عدّة مرات في أحاديثه: مرّة في حديثه مع عبد الناصر في اليوم الثاني لإلقاء خطاب التخلّي، وخروج الجماهير طالبة من عبد الناصر التراجع عن هذا القرار، فقد جلس عبد الناصر وهيكل، وبدأ عبد الناصر يراجع مع هيكل أسباب الهزيمة، وكان عنوان الحلقة: لماذا حدثت النكسة؟ فذكر عبد الناصر أسباباً متعدّدة تتعلّق بالسياسات والقوة الجوية والاتحاد السوفييتي ومعاداة أمريكا إلخ…، لكنّ هيكل استدرك بعد كل حديث عبد الناصر الطويل، وذكر عنصراً جديداً لم يذكره عبد الناصر وهو عدم وجود دولة في مصر، واعتبره السبب الرئيسي في وقوع النكسة.

وفي مجال الردّ على هيكل بخصوص هذا العامل، فمن المؤكّد أنّ المفارقة بين مصر واسرائيل ستكون خير ردّ على هيكل، فإذا اعتبرنا أنّ عاملاً رئيسياً من عوامل خسارة مصر للحرب هو عدم وجود دولة في مصر، فهذا أحرى أن يفعل فعله في اسرائيل، ويؤثّر فيها، لأنّ اسرائيل عندما انتصرت كان عمرها عقدين، ومصر تملك عمراً أطول بشكل مؤكّد، فهذا أدعى أن يعكس النتائج، ويجعل اسرائيل تنهزم ومصر تنتصر، ولكنّ الأمر لم يجر على هذا المنوال فهذا أدعى أن يجعلنا ندرك إلى أيّ حدّ كان كلام هيكل بعيداً عن الصواب.

والآن بعد أن عرضنا رأي هيكل في أسباب هزيمة 67، وفنّدنا وجهة نظره، لننتقل ونتساءل: ما سبب النكسة؟ ولماذا وقعت الهزيمة؟ أعتقد أنّ هيكل ابتعد عن الأسباب الرئيسية التي أوقعت النكسة ولم يتعرّض لها، ولم  يتفحّصها، وهي المباشرة والقريبة، وذهب إلى الأسباب البعيدة التي تتكوّن في عدّة عقود أو قرون، ولكن كل الأسباب التي ذكرها هيكل في تعليل النكسة كانت موجودة بل متجذّرة في اسرائيل: فهي لا تملك جيشاً وطنياً عريقاً ذا تقاليد قتالية راسخة، ولا تملك شعباً مقاتلاً بل هو أبعد ما يكون عن القتال، ولا تملك دولة ذات وجود مديد، فاسرائيل وبناء على ما ذكر أولى بالهزيمة من مصر، ومع ذلك فقد انتصرت اسرائيل، وانهزمت مصر ومعها كل العرب، فما الأسباب المباشرة والقريبة والتي أدّت إلى هزيمة 67، التي قفز عنها هيكل وتجاهلها؟

ذكر هيكل أنّ كل مؤسسات الدولة عملت تقارير راجعت فيها وقائع حرب 67 وأسبابها، فقدّم اللواء عبد المحسن المرتجى قائد جبهة سيناء تقريراً عن وضع الجيش، وذكر المرتجى أسباباً متعدّدة للهزيمة تتعلّق بالضباط والجيش، وأسلحته، وتدريبه، وأخلاقيته، ومناقبيته، وأشار إلى الشللّية التي قامت حول شمس بدران إلخ…

وقد أشار إلى كل العناصر السابقة بالسلبية والتأثير السيء على سير المعركة، كما أشار تقرير المخابرات الذي قدّمه أحمد فاضل إلى أنّ المخابرات لم تجمع المعلومات الكافية عن العدو، وإلى أنه لم تكن هناك متابعة دقيقة له، وإلى اختراق العدو لأمن مصر من خلال شبكات داخلية وخارجية تواجدت في نوادي مصر والتي كان يرتادها كبار الضباط إلخ… لكنّ هيكل اعتبر أنّ العوامل التي ذكرها التقريران عامة، وتحدث في كل الجيوش وفي كل الأزمنة، وقلّل من قيمتها لكنه أشاد بتقرير اللواء عبد المنعم رياض الذي قاد الجبهة الأردنية، لأنه أشار من بعيد إلى عدم وجود الدولة كأحد العوامل الرئيسية لوقوع نكسة 67، وهو ما يدعم وجهة نظره.

لاحظنا في كل ما سبق أنّ هيكل لم يعط أي وزن للآراء التي قدّمها رجالات الدولة المسؤولين عن أسباب الهزيمة، بل اعتبرها طبيعية ومحدودة التأثير، وأبرز -كما رأينا- العوامل البعيدة من مثل: غياب الجيش الوطني والدولة وعدم جاهزية الشعب للقتال، وهو في هذا الإبراز ألقى المسؤولية على عوامل أكبر من عبد الناصر وأقدم من وجود عبد الناصر وهو  بذلك يخفّف المسؤولية عنه، وكأنه يقول: إنّ الهزيمة نتيجة واقع تاريخي محتوم لازم لمصر، وهو مخطئ في ذلك خطأً كبيراً، وقد أغفل هيكل كما أغفلت التقارير التي قدّمها المسؤولون في الجيش والمخابرات والجبهة الأردنية إلقاء الأضواء على الايديولوجيا التي تبنّاها عبد الناصر أثناء حكمه، وهي الايديولوجيا القومية الاشتراكية الماركسية المتعارضة مع الدين في شقّيها القومي والاشتراكي الماركسي، فالقومية عند عبدالناصر تعتبر الأمّة العربية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وتنكر دور الدين في تشكيلها، وهي تنقل كل هذا عن ساطع الحصري، أمّا الاشتراكية الماركسية فتعادي الدين، ليس هذا فحسب بل حاولت أن تقتلع الدين من وجود الأمّة، والمتديّنين من كيانها، بحجّة أنّ هذا الدين هو أصل التأخّر والتراجع والانحطاط، وأنّ هؤلاء المتديّنين هم رجعيّون وخونة وعملاء وهم سبب التأخّر والانحطاط، إنّ هذا الهذيان هو الذي أفقد الجندي فاعليته، وأفقد القيادي تماسكه، وجعل الأمور التي تحدّث عنها اللواء عبد المحسن المرتجى وأحمد الفاضل واللواء عبد المنعم رياض من فقدان للانضباط والأخلاقية والمناقبية والتراتبية ومراقبة العدو إلخ…

أسباباً حقيقية للهزيمة، وكانت أسباباً رئيسية في هذا الانهيار السريع الذي لم تعرفه أمّتنا في أيّة معركة من تاريخها السابق، وبالمقابل يمكن أن ندرك قيمة الايديولوجيا في النصر إذا نظرنا إلى اسرائيل التي هزمت العرب جميعاً، وهي أقل عدداً، وتكوّن جيشها حديثاً، وقامت دولتها حديثاً، وقد اجتمع شعبها من بلاد شتّى، ومع ذلك فقد انتصر، والسبب الرئيسي في ذلك هو أنّ قيادة اسرائيل احترمت دين الشعب، وجعلته المحور الرئيسي الذي يحرّك الشعب، وعزّزت شأن التوراة، وأجلّت المقدّسات، وسنّت القوانين التي تدعم القِيَم الدينية من مثل: عدم القيام بالعمل في يوم السبت، وأكّد قادتها بدءاً من هرتزل ومروراً ببن غوريون وانتهاء بوايزمن بأهمية التوراة والدين في قيام اسرائيل واستمراريتها. ومثلما كانت الايديولوجيا التي تحترم الدين عاملاً رئيسياً من عوامل النصر عند اسرائيل، كانت الايديولوجيا القومية الاشتراكية التي تبنّاها عبد الناصر والتي تستأصل الدين من حياة الشعب ووجوده عاملاً رئيسياً من عوامل الهزيمة عندنا.

اترك رد