قراءة في العقل الأخلاقي العربي للجابري

ألف محمد عابد الجابري عدداً من الكتب حول العقل العربي، ومن الواضح أنه كان له فضل السبق إلى الكتابة في هذا الموضوع، وافتتح ساحة للنقاش في موضوع مهم وأساسي، والتقويم الكامل لمشروعه في نقد العقل العربي يحتاج إلى عدد من الكتب، وإن كنت أميل إلى أنه لم يوفق إلى اكتشاف حقيقة العقل العربي المسلم في صوره الثلاث: المجرد، والسياسي، والأخلاقي، لكنه وفق في تحديد الإضافات التي دخلت إلى هذا العقل من ثقافات أخرى.

فهو في كتابيه “تكوين العقل العربي” و “بنية العقل العربي” وفق في تحديد الإضافات التي دخلت إلى العقل العربي المجرد من الأنظمة الثقافية السابقة: مذهب الذرة، والعرفان والبرهان.

كما وفق في كتاب “العقل العربي الأخلاقي” إلى الحديث عن تداخل الموروث الفارسي واليوناني مع العقل الأخلاقي العربي، وأنا سأتحدث في مقالي هذا عن العقل الأخلاقي العربي فقط، وسأرجئ الحديث عن الكتب الأخرى في العقل العربي إلى مقالات أخرى.

اعتبر الجابري أن النظام الثقافي العربي استجلب الموروث الفارسي في مرحلة مبكرة نتيجة “أزمة في القيم”، وأن هذا الموروث الفارسي ركز على طاعة السلطان، ودمج الدين والطاعة والسلطان في حزمة واحدة، وقد بدأ إدخال هذا الموروث في نهاية العهد الأموي من أجل تدعيم الملك الأموي، وقد بدأه سالم بن عبد الرحمن موسى السعيد بن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وعبد الحميد الكاتب، وقد عمل الأخير كاتباً لدى آخر خليفة أموي وهو مروان بن محمد، واستخدم هؤلاء الكتّاب أسلوب “الترسل” في نشر هذا الموروث، وكان هذا الأسلوب يأتي في الرسائل التي يوجهها الخليفة إلى ولي العهد، أو إلى الولاة أو إلى الرعية، وكانت تقرأ هذه الرسائل أحياناً على عامة الناس، وكانت تدعو إلى الطاعة، وإلى تعظيم السلطان.
وقد بلغ هذا الأسلوب أوجه في بداية العهد العباسي، إذ ورثوا هذه التقاليد، ورسخوها في تعاملهم مع رعيتهم، وقد اعتبر الجابري أن عبد الله بن المقفع أكبر ناشر ومروج للقيم الكسروية وأيديولوجيا الطاعة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية، وقد عمل عبد الله بن المقفع كاتباً للخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، وقد ذكر الجابري أنه وصلنا أربعة كتب منسوبة إليه، هي: كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، ورسالة الصحابة، وقد لخص الجابري الموضوعات التي تدور حولها، “آداب” ابن المقفع بثلاثة، هي: طاعة السلطان، أخلاق السلطان، أخلاق الكاتب.
ثم حاول أن يثبت الجابري رواج قيم الطاعة الكسروية من خلال تفحص “كتب الأدب” التي تتحدث عن موضوعات مختلفة، واستعرض منها كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة (213-276)، والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي (246-328)، واعتبر الجابري هذين الكتابين هما النموذج المحتذى لكل كتب الأدب التالية، واستعرض الجابري -كذلك- كتابين آخرين من العصور المتأخرة هما: الازدهار “المستطرف في كل فن مستظرف” للكاتب شهاب الدين محمد بن أحمد الأشبيهي المتوفي سنة 850، ثم كتاب “صبح الأعشى في صناعة الإنشاء” للقلقشندي المتوفى سنة 821.
وقد اعتبر الجابري أن جميع هذه الكتب -المتقدمة والمتأخرة- تعرض القيم الكسروية، ومنها: طاعة السلطان المطلقة وتقديم الطاعة على المطاع، ودمج الدين والطاعة والسلطان في محور واحد إلخ.. وإذا استعرضت كتاب “عيون الأخبار” لوجدناه يحتوي على الأبواب التالية:
1- كتاب السلطان 2- كتاب الحرب 3- كتاب الشعر
4- كتاب الطبائع والأخلاق 5- كتاب العلم 6- كتاب الزهد
7- كتاب الإخوان 8- كتاب الحوائج 9- كتاب الطعام 10- كتاب النساء، واعتبر الجابري أن هذا الترتيب هو تعبير عن سوق للقيم يحتل فيها السلطان وبالتالي الطاعة موقع القيمة المركزية.
من غير المستبعد أن يكون الموروث الفارسي حاول أن يجد طريقه إلى الثقافة الإسلامية، كبقية الموروثات في المنطقة التي حاولت أن تغزو الثقافة الإسلامية، من خلال بعض وارثيها كسالم وعبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع، ومن غير المستبعد بصورة أقل أن يكون الخلفاء الأمويون والخلفاء العباسيون قد حاولوا الاستفادة من الموروث الفارسي في تطويع شعوبهم، وفي تدعيم سلطتهم، ولكن النظر في كتب الأدب من أجل قياس مدى تغلغل القيم الكسروية في الثقافة الإسلامية هو قياس قاصر، فلماذا لا نقيس تغلغل القيم الكسروية من خلال كتب الفقه؟ لأن الفقه على الأرجح يعكس حقيقة الأمور لدى جماهير الأمة أكثر من الأدب من جهة، ولأن اعتماد الفقه في استكناه حقيقة حياة جماهير الأمة أسلوب اتبعه كثير من الدارسين من جهة ثانية، فقد اتبعه محمد باقر الصدر من أجل استعادة صورة الحياة الاقتصادية القديمة من خلال تتبع الفتاوى الفقهية، وكذلك اتبعه آخرون من أجل استعادة صورة الحياة الاجتماعية من خلال العودة إلى فتاوى المحاكم الشرعية.

وإذا عدنا إلى كتب الفقه لنسألها عن شروط تولية الحاكم، وعن موقفها من البغي والبغاة، وعن شروط الخروج على الحاكم إلخ.. فماذا نجد؟ نجد أنها تتطلب شروطاً من أجل تولية الحاكم من أهمها: العدالة والاجتهاد، وقد اشترط الفقهاء لدوام الولاية دوام شرط العدالة، فقد نقل الماوردي في “الأحكام السلطانية” عن شرط العدالة فقال: “إن الجرح في عدالة الإمام، وهو الفسق على ضربين: أحدهما ما تبع فيه الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة. فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد. وقال بعض المتكلمين: يعود إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة، لعموم ولايته ولحوق المشقة في استئناف بيعته.
وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض، فيتأول لها خلاف الحق، فقد اختلف العلماء فيها: فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، ويخرج منها بحدوثه لأنه لما استوى حكم الكفر بتأويل وغير تأويل وجب أن يستوي حال الفسق بتأويل وغير تأويل”. (ص17)
وتحدثت الموسوعة الفقهية الكويتية عن البغي والبغاة فقالت: “ويرى الشافعية أن البغي ليس اسم ذم، لأن البغاة خالفوا بتأويل جائز في اعتقادهم، لكنهم مخطئون فيه، فلهم نوع عذر، لما فيهم من أهلية الاجتهاد. وقالوا: إن ما ورد في ذمهم، وما وقع في كلام الفقهاء في بعض المواضع من وصفهم بالعصيان أو الفسق محمول على من لا أهلية فيه للاجتهاد أو لا تأويل له، وكذلك إن كان تأويله قطعي البطلان”. (ج8، ص132)
وتحدثت الموسوعة الفقهية عن شروط تحقق البغي فقالت: “ولو خرجوا على الإمام بحق – كدفع ظلم- فليسوا ببغاة، وعلى الإمام أن يترك الظلم وينصفهم، ولا ينبغي للناس معونة الإمام عليهم، لأن فيه إعانة على الظلم، ولا أن يعينوا تلك الطائفة الخارجة، لأن فيه إعانة على خروجهم، واتساع الفتنة، وقد لعن الله من أيقظ الفتنة”. (ج8، ص133)
وتحدث الدكتور وهبة الزحيلي أيضاً في موسوعة (الفقه الإسلامي وأدلته) عن شروط عزل الحاكم والخليفة فقال: “العزل لتغير حال الحاكم والخليفة: والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: جرح في عدالته، ونقص في بدنه. أما جرح العدالة فهو الفسق: وهو ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، وانقياده للأهواء والشهوات”. (ج8، ص6188) كما تحدث الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعة (الفقه الإسلامي وأدلته) عن الحالة التي لا يطاع فيها الحاكم فقال: “ولكن لا تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم الإسلام القطعية الثابتة، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة المعروف، لا طاعة لمن لم يطع الله”. (ج8، ص6192)
ونقل وهبة الزحيلي عن ابن حزم إجازته الخروج على الحاكم الظالم فقال: “وقال ابن حزم بجواز الخروج، لأن الأحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه للأحاديث الآمرة بالصبر، لأن هذه الأحاديث وردت في مبدأ الإسلام، ولأن الدليل المحرم يقدم على المبيح عند تعارضهما، ولقوله تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله” (الحجرات، 49/9) ولأنه يجب على المسلم إزالة المنكر، ولا طاعة في معصيته، ومن قتل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد”. (ج8، 6196)
والآن نتساءل بعد أن نقلنا بعضاً من الأحكام الفقهية التي تبيح عدم طاعة الحاكم الجائر أو الفاسق أو الظالم ناهيك عن الحاكم الكافر وعن الموقف من البغي والبغاة، وعن الحالة التي لا يطاع فيها الحاكم إلخ…، نتساءل: أيهما أصدق تعبيراً عن واقع الثقافة العربية الإسلامية، كتب الأدب أم كتب الفقه؟ لا شك أن كتب الفقه أصدق تعبيراً، ولو أن الموروث الفارسي صبغ الثقافة العربية الإسلامية –كما زعم الجابري- لكان الفقه أولى المجالات بالاصطباغ لأن الفقه أضخم عنوان معبر عن الثقافة العربية الإسلامية ولأن أمتنا “أمة فقه” كما وصفها الدارسون.
ومما يؤكد عدم سيطرة الموروث الفارسي في طاعة الحاكم على ثقافتنا العربية الإسلامية، هو أن الفقهاء الذين جوّزوا طاعة الجائر أو الفاسق دعوا إلى الخروج عليه عند وجود الحاكم العادل، أو عند تقدير أمن الفتنة، كما دعوا إلى عدم مساعدته عند خروج المظلومين عليه.
بيّن الجابري أن القيمة المركزية في الموروث الفارسي هي “خلق الطاعة”، وبيّن أن القيمة المركزية في الموروث اليوناني “خلق السعادة”، وبين أن القيمة المركزية في الموروث العربي الجاهلي “المروءة” وأسف لأنه لم يكن مهتدياً إلى القيمة المركزية في “أخلاق القرآن” حتى وجدها عند كاتب هو العز بن عبد السلام (ت، 660) وهي “العمل الصالح” وبين أن القرآن الكريم كان هو المرجعية التي استند إليها العز بن عبد السلام في تنشئة الأخلاق الإسلامية بعيداً عن كل الموروثات الفارسية واليونانية، واعتبر أن هناك نقصاً في مشروع “أخلاق القرآن” الذي وضعه العز بن عبد السلام عندما لم يتعرض للسياسة، ولكنه رأى أن ابن تيمية قد استدرك هذا النقص عندما وضع رسالة “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” واعتمد المبدأ نفسه وهو “الطاعة”.

يلحظ الدارس أن الجابري كان يقفز من خلق “العمل الصالح” ليساوي بينه وبين “المصلحة”، فقد جاء عنوان الفصل الثالث والعشرين في كتاب “العقل الأخلاقي العربي” س: “في الإسلام: المصلحة أساس الأخلاق والسياسة” ثم قال في الفقرة السادسة من الفصل السابق نفسه: “تلك هي “أخلاق العمل الصالح، أو أخلاق المصلحة” (ص،615)، ثم قال في نهاية فقرة “إجمال وآفاق”: “فاقتصروا على محاسبة سلوك “الذين آمنوا” من زاوية الفرائض والسنن والحلال والحرام، وسكتوا عن “الصالحات”، وعن “المصلحة” التي هي المقصود مما يخوض فيه الفقهاء وينشغل المتكلمون” (ص،620)، والسؤال الآن: ما مدى صواب الانتقال من “العمل الصالح” إلى “المصلحة” في عبارات الدكتور الجابري السابقة والتسوية بينهما؟ لاشك أن “العمل الصالح” غير “المصلحة”، لأن “العمل الصالح” مشروط ومحدد بعدة قواعد إسلامية، فلو أخذنا أي “عمل صالح” يعتبره الشرع عملاً صالحاً: يجب أن يكون مما حلله الإسلام، ويجب أن تتجه النية فيه إلى الله، ويجب أن يلتزم قواعد الشريعة إلخ… فالبيع والشراء فيه مصلحة للمسلمين، لكن هناك أنواعاً من البيع والشراء محرّمة، لا يجوز أن يقدم عليها المسلم بحال من الأحوال، فلا يجوز أن يبيع الخمر مثلاً، ولا أن يدخل الربا بيعه أو شراءه إلخ…، والسؤال الآن: لماذا أقدم الدكتور الجابري على هذه التسوية بين المفهومين؟ الأرجح أنه أقدم على ذلك لكي يسهل استيعاب معطيات الحضارة الغربية لدى جماهير الأمة في وقتنا الحاضر، ونقل مفاهيمها في الديمقراطية والحرية والقومية إلخ.
على الأرجح أن “العبودية” هي القيمة المركزية في الأخلاق الإسلامية، وليس “العمل الصالح والمصلحة” لأنها أول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة “لا إله إلا الله”، وأول ما دعا إليه إخوته الأنبياء السابقون، فقال تعالى: “وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون”. (الأنبياء، 21/25) ولأن هذه العبودية تقتضي عقلاً عارفاً لله من جهة، وقلباً ممتلئاً بالله تعظيماً وخضوعاً وخوفاً ورجاءً وحباً وثقة من جهة ثانية، ويمكن أن تنبثق بعد ذلك من هذا العقل العارف لله والقلب الممتلئ بالله كل الأخلاق المجيدة: من شجاعة وكرم وفاعلية وإيجابية وإيثار إلخ…، ثم يصبح هذا العبد بعد أن يتحلى بكل الصفات السابقة منسجماً مع كل مفردات الكون التي هي عابدة لله، ومسبحة له.
لقد جانب الجابري الصواب في عدة أماكن من كتاب “العقل الأخلاقي العربي”:
أولها: اعتباره أن القيم الكسروية هي التي صبغت الثقافة العربية الإسلامية.
ثانيها: اتخاذه “كتب الأدب” مقياساً لتغلغل القيم الكسروية، وقد بينت أن “كتب الفقه” أولى باتخاذها كأداة لهذا القياس.
ثالثها: اعتباره أن “العمل الصالح والمصلحة” هي القيمة المركزية في العقل الأخلاقي العربي، والأرجح أنها “العبودية”.
المقال في الجزيرة نت قراءة في “العقل الأخلاقي العربي” للجابري

 

اترك رد