مثلت “فتح” في الخمسينات تياراً وطنياً فلسطينياً بامتياز، فهي وقفت في طرحها النظري موقفاً محايداً من كل الطروحات الأيديولوجية التي كانت تعج بها المنطقة بعد نكبة 1948، والتي تمثلت في الطرح الأيديولوجي الشيوعي والقومي والإسلامي، وابتعدت عن كل الصراعات الأيديولوجية، وطرحت “فتح” نفسها كحركة تحرير وطني دون أية مضامين اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عقائدية إلخ..
وجعلت “فتح” همها القيام بعمل عسكري لمقاتلة العدو الصهيوني، وتحرير الأرض الفلسطينية من هؤلاء الصهاينة، وكان عليها أن تتلقى دعم القاهرة لكي تقود الساحة الفلسطينية في منتصف الخمسينات، لكن جمال عبد الناصر وهو رائد القومية العربية آنذاك لم يعطها هذا الدعم لسببين: الأول: هو احتواء صفها القيادي عدداً كبيراً من ذوي التوجه الإسلامي والإخواني السابق. الثاني: وجود حركة القوميين العرب التي كانت تغطي الشارع الفلسطيني، والتي كانت قوية الارتباط بعبد الناصر، وتحمل فكرته القومية العربية. لذلك احتضن البعث السوري عام 1965 حركة “فتح” نكاية بعبد الناصر، وزايد عليه في وتحرير الأرض مجال القضية الفلسطينية، إذ قامت “العاصفة” وهي الجناح العسكري لحركة “فتح” بعدة عمليات ضد إسرائيل، واتخذت سورية منطلقاً لها، كما اتخذت أرضها أيضاً قاعدة للتدريب.
لكن عبد الناصر اتصل بحركة “فتح” عن طريق محمد حسنين هيكل، بعد نكسة عام 1967، واجتمع ببعض أشخاص من قيادتها، وسلّم ياسر عرفات رئاسة المنظمة بعد معركة الكرامة عام 1968، وقد فعل عبد الناصر ذلك من أجل امتصاص جانب من النقمة الشعبية التي واجهته إثر الهزيمة الشنيعة التي أصابت الجيوش العربية الثلاثة في مصر وسورية والأردن في حرب الأيام الستة، والتي أدت إلى احتلال إسرائيل لكل من سيناء والضفة الغربية والجولان.
وقد بلغت الحركة الوطنية الفلسطينية أوجها بتعاظم العمل الفدائي الذي ساندته معظم الدول العربية وعلى رأسها مصر والأردن وسورية، وأصبح هذا العمل الفدائي عصب الحياة السياسية العربية، كما أصبح أصل العمل الشعبي العربي، ودخلت كل الفصائل الفلسطينية المقاتلة منظمة التحرير الفلسطينية، لكن “فتح” بقيت هي المسيطرة على منظمة التحرير، وحصلت على النصيب الأوفى في كل مؤسساتها بدءاً من المجلس الوطني إلى اللجنة التنفيذية، وانتهاء بالمنظمات الشعبية.
واستمرت “فتح” في قيادة منظمة التحرير والسيطرة عليها طوال فترة الستينات والسبعينات دون منافس، لكن ظهور حركتي “حماس” و “الجهاد الإسلامي” خلال الانتفاضة الأولى التي اشتعلت في ديسمبر عام1987، والتي جعلت التيار الإسلامي منافساً رئيسياً لأول مرة لحركة “فتح” والذي غاب عن الساحة الفلسطينية لثلاثة عقود منذ ستينات القرن الماضي لعدة أسباب لا مجال للتفصيل-الآن- فيها. ثم استمرت الانتفاضة عدة سنوات يقودها طرفات متنافسان “فتح” من جهة، و “حماس” و “الجهاد” من جهة ثانية، وأحس ياسر عرفات بخطورة بروز الإسلاميين في الساحة الفلسطينية، ومنافستهم لحركة “فتح” وخشي من ابتلاعهم للساحة الفلسطينية، وهذا ما جعله يعجل بإجراء مفاوضات أوسلو، وانتهت هذه المفاوضات بتوقيع اتفاقات أوسلو في البيت الأبيض في أيلول عام 1993 برعاية الرئيس الأمريكي كلنتون، والتي أقرت بإقامة سلطة فلسطينية على أن تنتهي بدولة فلسطينية مستقلة خلال عدة سنوات، وسمحت تلك الاتفاقية بدخول ياسر عرفات إلى غزة عام 1994، وانتخابه رئيساً للسلطة الفلسطينية.
ثم حمي الصراع بين السلطة الفلسطينية التي تقودها حركة “فتح” وياسر عرفات من جهة وبين “حماس”، واستمرت “حماس” في إيقاع التفجيرات في القدس الغربية وفي إسرائيل، واعتقلت السلطة الفلسطينية عدداً كبيراً من أعضائها، واتسع نشاطها، وتعاظم دورها، وبدأت تكتسب تأييداً في الشارع الفلسطيني، وبدأت الجماهير تبتعد عن حركة “فتح” وساعدها أن اتفاقيات أوسلو لم تنفذ بشكل كامل، واغتيل اسحاق رابين مهندس اتفاقية أوسلو، وانعقد مؤتمر كامب ديفيد بين باراك وياسر عرفات برعاية أمريكا في صيف عام 2000 في نهاية حكم كلينتون، وفشل في التوصل إلى حل المشاكل الأساسية مثل القدس، واللاجئين والحدود والمستوطنات إلخ…
واندلعت الانتفاضة الثانية في أيلول 2000 من عام جواباً على فشل مؤتمر كامب ديفيد 2000، وتعاونت كل من “حماس” و”فتح” في إدارة فعالياتها، ثم حوصر عرفات في رام الله، وتوفي في عام 2004، وفازت “حماس” بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات عام 2006، فهل كان هذا الفوز إيذاناً بانتهاء مرحلة الوطنية الفلسطينية وعودة اشتعال الساحة الفلسطينية بالطرح الأيديولوجي؟
الأرجح أن الجواب نعم، والسبب في ذلك أن المرحلة الوطنية لم تحقق حلم الدولة الفلسطينية الذي راهنت عليه، وأن السلطة الفلسطينية تآكلت بدلاً من أن تنمو وترسخ، وظهر فساد مالي عند شريحة من قيادتها, وشهد تنظيم حركة “فتح” وهو التنظيم الذي قامت عليه السلطة عدة انقسامات وتباينات في وجهات النظر مما أدى إلى تصدعه وعدم تماسكه، فقد ترشح عدد من قيادات “فتح” في مواجهة بعضهم بعضا في الانتخابات التي جرت عام 2006 مما جعلهم يخسرون تلك الانتخابات، كما شهدت حركة “فتح” ترهلاً وضعفاً في بنيتها التنظيمية مما جعلها تعجز عن عقد مؤتمرها العام لفترة طويلة الخ… وعلى الأغلب أننا نشهد انحسارا وأفولا للحركة الوطنية ليس في الساحة الفلسطينية فحسب، بل نشهد انحسارا لها في كل المنطقة العربية وأكبر شاهد على ذلك العراق ولبنان حيث تبرز الأيديولوجية الدينية والمتمثلة في الأحزاب الشيعية والقاعدة في العراق، وحزب الله.
نشر المقال في جريدة الحياة بتاريخ 4-12-2008