تعرّفت على الأخ محمد الحسناوي -رحمه الله- أول ما تعرّفت فيه في الجامعة السورية التي سمّيت جامعة دمشق فيما بعد، وكان ذلك في قسم اللغة العربية من كلية الآداب، إذ كنّا سويّة في صف واحد في نهاية الخمسينات، وكان معنا الأخ الشاعر المبرز محمد منلا غزّيل، الذي كان ذا إحساسات مرهفة في شخصيّته وشعره، ومازلت أذكر ديوانه الذي أصدره وهو طالب تحت عنوان “الصبح القريب” جواباً على سؤال الآية الكريمة التي قالت: “أليس الصبح بقريب؟” (هود،81).
وكان من أبرز أساتذتنا الذين نهلنا من علمهم الأستاذ سعيد الأفغاني الذي كان يتولّى رئاسة قسم اللغة العربية في ذلك الحين، ومن الجدير بالذكر أنّ الأستاذ سعيد الأفغاني كان لا يحمل أيّة شهادة جامعية أو مدرسية، إنما تلقّى علمه على مشايخ عصره، ولكنه كان حجّة في النحو العربي على مستوى العالم العربي، وكان من أساتذتنا المبدعين شكري الفيصل -رحمه الله-، وقد درّسنا آداب عصر الانحطاط وكان تحليله للقصائد الشعرية ممتعاً يكاد يصل إلى السحر، ودرّسنا من لبنان أستاذان هما عمر فروخ وصبحي الصالح -رحمهما الله تعالى- الأول: درّسنا التاريخ الأندلسي، ومازلت أذكر نظرته النقدية للرواية التاريخية عن إحراق طارق بن زياد للسفن بعد انتقاله إلى الأندلس ورفضه لها، الثاني: درّسنا ثلاثة مواد هي: علوم القرآن وعلوم الحديث وفقه اللغة، وكان الدكتور صبحي الصالح -رحمه الله- متخرّجاً حديثاً من جامعة السوربون في باريس من فرنسا بعد تخرّجه من جامعة الأزهر، وعندما درّسنا الدكتور صبحي الصالح تلك المواد الثلاثة كان يمليها عليها كمذكّرات ثم جمعها في ثلاثة كتب، لذلك كنّا أول من درس تلك الكتب الثلاثة وهي: مباحث في علوم القرآن وعلوم الحديث ومصطلحه وفقه اللغة، والتي تضمّنت الردّ على المستشرقين، وتضمّنت نقداً لأمور حديثية وروايات عن القرآن الكريم، وعرضاً لأمور متعدّدة بصورة جديدة، وتضمّنت إلقاء الأضواء على المظان التي جمعت الحديث الشريف كصحيفة الصادقة وغيرها، ومن الجدير بالذّكر أنّ تلك الكتب طبعت بعد ذلك أكثر من عشرين طبعة وأصبحت مراجع معتمدة لدى كثير من الجامعات وطلاّب العلم.
ومن القواعد التي اتبعها قسم اللغة العربية آنذاك والتي أرساها الأستاذ سعيد الأفغاني -رحمه الله- والتي تدلّ على المستوى اللغوي المرتفع الذي حرص عليه، من هذه القواعد أنه يخصم خمس درجات لكل خطأ نحوي أو إملائي يقع فيه الطالب أثناء كتابته الإجابات في أيّة مادة سواء أكانت تاريخاً أم أدباً أم جغرافيا أم نحواً أم نقداً إلخ…، فلو حصل الطالب على ستين من مائة في أيّة مادة ثم أخطأ ثلاثة أخطاء نحوية أو املائية تخسف درجته وتصبح خمس وأربعين ويتحوّل إلى راسب بعد أن كان ناجحاً، ومن القواعد الأخرى التي اتبعها قسم اللغة العربية أنه كان يجري امتحاناً شفهياً لكل المواد الدراسية بعد نجاح الطالب في التحريري، فإذا رسب الطالب في الامتحان الشفهي أعاد الامتحانين: التحريري والشفهي مرة ثانية.
استرسلت في الحديث السابق عن الأساتذة الذين درسنا عليهم في الجامعة أنا والأخ الحسناوي -رحمه الله-، وأوضحت بعض التقاليد المتبعة في الدراسة والامتحانات لأبيّن الحصيلة العلمية الوافرة التي تلقّاها الحسناوي في الجامعة، والأساس المكين الذي بنى ثقافته عليه. إنّ إبداعه التالي في الشعر والقصة والمقال لم يأت من فراغ إنما جاء من تفاعل مع أساتذة كبار، وقد زاد في عمق التفاعل مع هؤلاء الأساتذة أنه كان متفرّغاً للدراسة، وكان يداوم في الجامعة وكان على علاقة شخصية بكل الأساتذة تقريباً مما يتيح له أن يلتقي بهم خارج قاعات التدريس ليسمع منهم، ويراجع بعض المذكّرات التي يكتبونها معهم، وكان يساعدهم في بعض أعمالهم الجامعية من مثل متابعة طباعة مذكّراتهم وتنقيحها، وكنت أعتمد عليه مع بعض الزملاء الآخرين في نقل المذكّرات التي تفوتنا من كتبه ودفاتره الشخصية لأنه كان أكثر مداومة وأكثر صلة بأساتذة الجامعة.
وعندما تخرّجنا سويّة أنا والأخ محمد الحسناوي -رحمه الله- من جامعة دمشق في مطلع الستينات لم يكن هناك قسم للدراسات العليا، ثم أخبرنا الدكتور صبحي الصالح بأنّ هناك قسماً للدراسات العليا أُنشئ في الجامعة اللبنانية في بيروت، ونتيجة العلاقات السابقة والتي جاءت من جامعة دمشق سجّلنا عنده رسالة الماجستير، فسجّل الأخ محمد الحسناوي -رحمه الله- بحثاً تحت عنوان “الفاصلة في القرآن الكريم”، وأنا سجّلت بحثاً تحت عنوان “زُفَر بن الحارث الكلابي” وهو زعيم القَيْسيّة، سمع من عائشة رضي الله عنها، وذهب سفيراً لها إلى معاوية بن أبي سفيان بعد وقعة الجمل، وكان آخر من أمسك بخطام جمل عائشة الذي عقره علي بن أبي طالب t في وقعة الجمل من أجل إنهاء تلك المعركة.
وكان الدكتور صبحي الصالح -رحمه الله- حدّثني أثناء صلتي به وتردّدي عليه من أجل استكمال تدوين بحث زُفَر من الحارث الكلابي، حدّثني عن سروره بما كتبه الحسناوي -رحمه الله- عن “الفاصلة في القرآن الكريم”، وإعجابه بما توصّل إليه من نتائج، وثنائه على قدراته في الكتابة والبحث. في الحقيقة لم أتفاجأ بثناء الدكتور صبحي الصالح لمعرفتي المسبقة بالحصيلة الأدبية والعلمية التي اختزنها الأخ الحسناوي -رحمه الله- من خلال قراءاته ومطالعاته ودراسته الجامعية والتي بنى عليها بحثه.
وفي ختام ذكرياتي عن الأخ الحسناوي لا يسعني إلا أن أدعو الله -تعالى- أن ينـزل عليه شآبيب رحمته، وأن يسكنه فسيح جنّاته، وأن يعلي منـزلته ومقامه لما قدّم وبذل في سبيل دينه وأمّته.