ألقت مراجعة الدكتور فضل بشقيها: “وثيقة ترشيد الجهاد في مصر والعالم” والمقابلات الصحفية التي أجرتها معه جريدة “الحياة” وغيرها من الصحف والإذاعات الضوء على الوضعية الحقيقية لـ”حركة الجهاد”، وهي أنّ هناك شخصاً براغماتياً هو أيمن الظواهري وراء حركة الجهاد يظهر ويختفي في صدارة القيادة حسب الظرف الأنسب له، فهو قد كان الأول في قيادة “حركة الجهاد” قبل اغتيال السادات عام 1981، ولمّا انتهت المحاكمات التي أعقبت اغتيال السادات وصدرت الأحكام وانتقلت معظم كوادر العمل الجهادي في مصر إلى بيشاور في باكستان، وتبيّن أنّ هناك قصوراً في أداء الظواهري التنظيمي، فقد تسبب في اعتقال أكبر ضابط عسكري في “حركة الجهاد” هو عصام القمري، فرتّب أمور “حركة الجهاد” ترتيباً يناسب وضعه وحالة ساحة بيشاور، فانسحب خطوة إلى الوراء، وحاول أن يجمع حبال حركة الجهاد من وراء ستار، فقدّم سيد إمام الشريف (الدكتور فضل) على أنه القائد لحركة الجهاد، لأنه يملك ثقافة شرعية كوّنها بجدّه واجتهاده الخاص، وكان قد عرف الظواهري هذا الأمر عن الدكتور فضل أثناء دراستهما الطب في مصر، ففرّغه وأعطاه المال اللازم وهيّأ له الأسباب لإنتاج الكتابات الشرعية، لأنّ “حركة الجهاد” محتاجة إلى تأصيل مواقفها، والردّ على مخالفيها وأبرزهم “الجماعة الإسلامية”، ومحتاجة إلى قائد يرتدي ثوب العلم.
أمّا الخيط الثاني الذي حرّكه أيمن الظواهري من وراء ستار فهو أسامة بن لادن، وجاءت قيمة أسامة بن لادن من الأموال التي يمتلكها، لذلك أحاطه بشخصين هما: أبو عبيدة البنشيري وأبو حفص المصري وجعلهما المدخل له، وبالفعل أحاطا به إحاطة السوار بالمعصم، وكان ينفّذ ما يوحيان له به، واستمرّ هذا الوضع إلى أن انتهى الجهاد في أفغانستان عام 1990 وانتقل الجميع إلى السودان، وظهرت الخلافات التنظيمية في “حركة الجهاد” بعد فشل الجهاد الأفغاني، وابتعد الدكتور فضل عن القيادة، واستلم أيمن الظواهري قيادة “حركة الجهاد” من جديد، وظهر أمام الستارة بعد أن كان في الظل.
هذا عن بعض الأمور التنظيمية في “حركة الجهاد”، أمّا عن الملاحظات التي دوّنها الدكتور فضل في “وثيقة ترشيد الجهاد” والتي انتقد فيها بعض الأعمال الجهادية من مثل أنه لا يجوز السطو على أموال الغير من أجل الحصول على النفقة المطلوبة للجهاد، وأنه لا يجوز الاعتداء على السيّاح والأجانب في بلادنا، كما أنه لا يجوز الاعتداء على الأجانب في بلادهم حتى لو اعتدت حكوماتهم على أوطاننا إلخ…، كما أنه أسقط الجهاد عن الجماعات الإسلامية بحجّة أنّ وضعها يتراوح بين العجز والاستضعاف، وكذلك وضّح الضوابط المتعدّدة التي تسمح بتكفير المعيّن إلخ…
فنجد أنّ حركة الجهاد انتقلت من طرف إلى نقيضه، فالمعروف عن “حركة الجهاد” تساهلها في إطلاق أحكام التكفير، فلَم تكفّر الحكّام فحسب، بل كفّرت جميع أعوانهم من مثل أفراد الجيش والشرطة والوزراء وأفراد الحكومة إلخ…، كما كانت توجب الجهاد وتوجب الخروج على الحكّام، وتتشدّد في ذلك إلخ…، فما السبب في الانتقال من موقف إلى نقيضه؟ السبب في ذلك هو القصور في وعي الواقع، وتحليله، وتوصيفه والانطلاق منه، مع أنه يفترض في أيّة حركة تريد تغيير الواقع أن تعي هذا الواقع، وتعطيه التوصيف المناسب، وتحدّد أولويّات الأمراض والعقبات والمشاكل، ثم تحدّد الأدوات والخطوات المطلوبة لتغيير هذا الواقع على ضوء الأمور الشرعية وعلى ضوء هذا التوصيف، ولكنا لا نجد هذا يحدث عند “حركة الجهاد” لكنّ ما حدث هو انتقاء بعض الأحكام الفقهية من تراثنا الفقهي الواسع، حول الحاكم وكفره وجواز الخروج عليه ثم بناء المواقف العملية على ضوء هذه الأحكام الفقهية في مرحلة أولى، ثم يأتي التراجع عنها واختيار خلافها في مرحلة ثانية، ومما يؤكّد ذلك، وهو أمر القصور في وعي الواقع وتحليله والانطلاق منه عند الدكتور فضل أننا لا نجد إشارة إلى الواقع المعاصر في “الوثيقة” سوى مرّتين:
الأولى: عند حديث الدكتور فضل عن سقوط الخلافة العثمانية، واستعمار الدول الغربية لمعظم الدول الإسلامية وربط ذلك بذنوب المسلمين.
الثانية: عند حديث الدكتور الفضل في الحلقة الرابعة عشر عن نصيحته لحكّام الدول العربية، فيذكر أنّ الوحدة العربية التي سعت الجامعة العربية إلى تحقيقها عند قيامها عام 1945 هي ضرب من الأوهام. ومن الواضح أنّ الإشارتين التي وردتا عن الواقع كانت مقتضبتين وساذجتين، وكان الأولى أن يتعمّق الدكتور فضل في تحليل سبب سقوط الخلافة العثمانية وأن يورد أسباباً أخرى غير الذنوب، ويربط ذلك بالواقع التاريخي كنشوء الفِرَق ونهضة الغرب واكتشاف أمريكا إلخ…، وأن يتفحّص الفكر القومي العربي وبنيته من الداخل ويضع يده على مكمن الخلل في بنية هذا الفكر، فالوحدة العربية غير الفكر القومي العربي، فهي هدف من أهداف القومية العربية، وهي هدف نبيل لدى عموم أفراد الأمّة: القوميين منهم والإسلاميين.
لاشكّ بأنّ ضعف وعي الواقع، والقصور في تحليله، وغياب مفهوم الأمّة هو الذي جعل الحركات الإسلامية بشكل عام والحركات الجهادية بشكل خاص تتخبّط وتنتقل من النقيض إلى النقيض أحياناً، وهو الذي جعل مردود عملها محدوداً أحياناً أخرى.