سقطت دولة الخلافة العثمانية عام 1926 وبقيت الأمة، وكانت الوحدة الثقافية أبرز وأقوى عامل في الدلالة على وجود هذه الأمة، وفي تحقيق وحدتها، وكانت العوامل الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية أضعف في الدلالة على وجودها ووحدتها.
لذلك عندما بدأت إنجلترا وفرنسا احتلال المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وأرادت أن تسوق نموذجها الحضاري وتفرضه، اصطدمت بالوحدة الثقافية التي أفشلت هذا الإلحاق الحضاري، فكيف وقع هذا الإفشال؟
لقد كان الفكر القومي هو الأداة التي استخدمتها الدول الغربية من أجل فرض نموذجها الحضاري، فاعتمدت الفكر القومي العربي في العراق، والفكر القومي المصري الفرعوني في مصر، وكان ساطع الحصري -رائد الفكر القومي العربي- أبرز من نظر لذلك الفكر في العراق، كما نظر عدد من المفكرين في مصر للفكر القومي المصري الفرعوني: أحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس محمود العقاد وسلامة موسى وغيرهم.
وقد دعا أولئك المفكرون القوميون إلى نقل النموذج الحضاري الغربي في مفهوم الأمة، وفي علاقة الفرد بالأمة، وفي دور الدين، وعلاقة الفرد بالدين والدولة.
فقد وصف أولئك المفكرون الأمة التي ننتمي إليها بأنها أمة عربية، أو أمة مصرية لا دور للدين في تكوينها، كما دعوا لحصر دور الدين -كما في الغرب- على المسجد، وألا تصبح له أية علاقة بالشأن العام، كما يجب أن تحكم رغباتنا وأهواؤنا ومصالحنا الشأن العام وتقنن له.
لقد تصادمت تلك الأفكار والآراء القومية، وغيرها من الأفكار الغربية مع منظومة الأمة الثقافية المتغلغلة في كيان أفراد الأمة، لذلك لم تتقبل جماهير الأمة تلك الدعوات والأفكار، بل بقيت الأفكار الغربية نخبوية ترعاها نخبة محدودة من المثقفين.
وقد ظهر ذلك عندما اكتسحت حركة “الإخوان المسلمين” الشارع في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، وعبرت عن رفضها لتلك المبادئ التغريبية، مما اضطر بعض أولئك المفكرين إلى استرضاء الجماهير الإسلامية فاستخدم بعض العناوين الإسلامية من أجل الترويج لكتاباته، فكتب عباس محمود العقاد “العبقريات” وكتب طه حسين “الإسلاميات”، وكتب محمد حسين هيكل عن أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
لم تنجح الدعوات القومية في تغريب المنطقة بين الحربين العالميتين، لكنها نجحت في تغريب قطاع محدود من الشعوب العربية، وفشلت تلك الدعوات كما رأينا بسبب الوحدة الثقافية الراسخة في وجود أمتنا وكيانها.
وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية أصبحت أميركا هي القوة الأولى في العالم، وحل الاتحاد السوفياتي في المرتبة الثانية في قيادة العالم، ثم بدأت حقبة الحرب الباردة بين العالم الحر الرأسمالي والعالم الشيوعي، وحلت أميركا مكان الاستعمار القديم في قيادة العالم العربي، ولكننا نجد أن الاتحاد السوفياتي أخذ وضعا متقدما في العالم العربي، وأصبحت كثير من الدول العربية من مثل مصر وسوريا والعراق واليمن والصومال والجزائر على علاقة وطيدة بالاتحاد السوفياتي الشيوعي.
وقد شملت تلك العلاقة الوطيدة جوانب متعددة، منها العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وقد كان ذلك بعلم أميركا ودرايتها وحضور نفوذها، وكان ذلك أمرا مستغربا ومحتاجا إلى تفسير وتعليل، فما تعليل ذلك؟
لقد علّل جلال كشك -رحمه الله- ذلك، فمثّل روسيا بالدب، وأميركا بالنسر، وشبّه المنطقة بحبة الجوز المستهدفة للقضم، واعتبر أن الدب أقدر من النسر على كسر حبة الجوز، ولكن النسر قادر على خطف الثمرة والطيران بها بعد أن يكسرها الدب، واعتبر هذا تصويرا لما حدث من تجاذبات بين الاتحاد السوفياتي الشيوعي والولايات المتحدة الأميركية أثناء الحرب الباردة في المنطقة العربية.
فأميركا أسلمت المنطقة للاتحاد السوفياتي من أجل ترويضها وتطويعها وتدمير “الوحدة الثقافية” التي استعصت على إنجلترا وفرنسا في مرحلة سابقة، لذلك أخضعت المنطقة للأفكار والمفاهيم الاشتراكية والشيوعية التي عادت الدين، والتي قالت بأنه لا إله والكون مادة، واعتبرت الغيبيات من جنة ونار خرافات وأوهاما اخترعها رجال الدين من أجل استغلال الفقراء، واعتبرت الدين أفيون الشعوب، وأنه يجب استئصال الدين من حياة الشعب لأنه مناف للتقدم، ومعرقل لتحرر الإنسان، ومكبل لعقله، وتجب محاربة المتدينين لأنهم حلفاء الرأسماليين وعملاؤهم.
وقد قامت إلى جانب ذلك أفكار دموية تسعى إلى فرض الأفكار الاشتراكية عن طريق العنف والقتل والسحل، وتعتبر ذلك مشروعا، وتسمّيه العنف الثوري، وأنه ضريبة لا بد منها من أجل النهوض والتقدم، وقد استفادت في كل تلك الآراء من النظرية الماركسية التي تعتبر أن صراع طبقة العمال مع طبقة الرأسمالية هو صراع حتمي، وأنه لا بد من إقامة دكتاتورية البروليتاريا من أجل تحقيق انتصار طبقة العمال، ومن أجل تحقيق التقدم والنهضة.
في مواجهة تلك الأفكار والآراء الاشتراكية والماركسية، واجهت “وحدتنا الثقافية” أشد وأعنف هزة في تاريخ الصراع الثقافي. وقد نجحت تلك المخططات في اقتطاع بعض الأشخاص من منظومة الأمة الثقافية ونقلتهم إلى العداء معها، لكنها فشلت في تدمير الوحدة الثقافية للأمة، ودل على ذلك قيام الصحوة الإسلامية وبروزها في سبعينيات القرن الماضي.
وقد أعادت هذه الصحوة إلى الواجهة القيم الإسلامية مثل الحجاب والمساجد والكتاب الإسلامي والبنوك الإسلامية والعمل الخيري الإسلامي، وقادت لحصول الإسلاميين على نسبة كبيرة من برلمانات الأردن واليمن ومصر والجزائر وغيرها.
هذا على المستوى الثقافي و”الوحدة الثقافية”، ولكن على المستوى السياسي استطاع النسر الأميركي أن يستعيد نفوذه السياسي، بعد أن جاء السادات وأنهى النفوذ السوفياتي، وربط مصر باتفاقية كامب ديفيد التي وقعتها أطراف ثلاثة، هي مصر وإسرائيل وأميركا، ثم تبعت الدول العربية مصر في العودة إلى النفوذ السياسي الأميركي واحدة تلو الأخرى.
في حقبة الثمانينيات بدأت خطة جديدة للنسر الأميركي، وقد أراد هذه المرة أن يكمل تدمير “الوحدة الثقافية” عن طريق طرف آخر هو إيران الشيعية. وقد بدأت تلك الخطة منذ وصول الخميني إلى الحكم عام 1979، وتقوم على دعامة علنية وهي تصدير الثورة، وتحويل أمتنا من أمة سنية إلى أمة شيعية، وذلك من خلال نشر المذهب الشيعي. وقد استخدمت إيران من أجل تحقيق هذا الهدف عدة وسائل، هي:
1 إشعال الحروب
ساعدت إيران أميركا في احتلال العراق عام 2003، وقد صرح بهذا أكثر من مسؤول إيراني، وتعاونت بعض الأحزاب والشخصيات الشيعية التي تأتمر بأمر طهران مع أميركا في احتلال العراق، فمن الأحزاب والتجمعات الشيعية: المجلس الأعلى لقيادة الثورة بقيادة محمد باقر الحكيم، وحزب الدعوة بتفرعاته المتعددة، ومن الشخصيات: إبراهيم الجعفري، علي المهدي، حسين الشهرستاني، نوري المالكي، أحمد جلبي وغيرهم.
وقد أدى الاحتلال الأميركي إلى تدمير العراق في كل المجالات: الاقتصادية والعلمية والبنى التحتية والآثار، والأهم من ذلك عشرات الآلاف من القتلى، والأكثر أهمية من كل ذلك هو الاصطراع الطائفي الدموي الذي ما زال مشتعلا منذ عشر سنوات بين الشيعة والسنة، والذي لا يهدأ حتى يشتعل مرة ثانية، والذي ستكون إحدى نتائجه تقسيم العراق إلى ثلاث دول.
وأشعلت إيران حربا ثانية في اليمن فأمدت الحوثيين بالمال والسلاح، وحصلت عدة حروب بين صنعاء والحوثيين حصدت آلاف القتلى وما زال اليمن مرشحا للانقسام، وهو يعيش حالة صراع طائفي ومذهبي.
2 اضطرابات طائفية
أشعلت إيران اضطرابات طائفية في كثير من الدول والمناطق كالسعودية، ولبنان، والبحرين، والكويت، وباكستان، ومصر، وأفريقيا، وبعض دول آسيا، ولا يتسع المقام لاستعراض كل الاضطرابات الطائفية التي أشعلتها إيران في كل الدول والمناطق، وسنكتفي بالحديث عن مثال واحد هو السعودية.
فقد دفعت إيران الطائفة الشيعية في السعودية إلى التظاهر في كثير من المناطق، وبشكل خاص في المنطقة الشرقية.
كما أقامت مظاهرات في مواسم الحج تحت عنوان البراءة من الشرك، وقد اصطدم الحجاج الشيعة مع الشرطة في مكة أكثر من مرة، وقتل عدد كبير في مواسم الحج، وأبرزها موسم حج عام 1987، كما أوقع حجاج شيعة آخرون عدة اضطرابات ومظاهرات واصطدامات مع الشرطة عند البقيع في المدينة، كما قام تنظيم شيعي مرتبط بإيران بتنفيذ تفجير في سكن عسكري في الخبر.
إن هذه الاضطرابات الطائفية في السعودية وغيرها ستؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وإلى تدمير وحدة المجتمع، وإلى الانصراف عن البناء والتقدم.
3 تمزيق وحدة المجتمع
قامت إيران بنشر المذهب الشيعي في عدد من الدول ذات السنية الراسخة من مثل مصر والجزائر وتونس والمغرب. وقد أدى ذلك إلى اصطراع طائفي، وإلى تمزيق وحدة المجتمع، وأصاب تلك المجتمعات بالضرر، وصرفها عن البناء الحضاري، ولن تستفيد من هذا الصراع إلا إسرائيل وأعداء الأمة.
4 استغلال القضية الفلسطينية
توجهت إيران إلى استغلال القضية الفلسطينية من أجل أن تكسب تعاطف العرب والمسلمين، ولتحسين صورتها، لأن قضية فلسطين كانت مفتاح قلوب العرب والمسلمين خلال الستين سنة الماضية، فاستغلها القوميون والأنظمة الثورية منذ النكبة، ثم جاء دور إيران الآن.
لذلك أنشأت إيران حزب الله في لبنان لهذا الغرض، ومما يؤشر على عدم مصداقيتها في خدمة القضية الفلسطينية أنها جعلت كل أعضائه من الطائفة الشيعية، واستخدمته بعيدا عن القضية الفلسطينية، فاستخدمته ليكون دولة داخل الدولة اللبنانية، ثم استخدمته في احتلال بيروت الغربية عام 2008 من أجل إضعاف السنة وإذلالهم، ثم استخدمته -أيضا- في مقاتلة الشعب السوري لصالح النظام السوري العلماني المعادي للدين، وكان ذلك أوضح ما يكون في جنوب دمشق وفي معركة القصير، فأين كل هذه الأعمال من القضية الفلسطينية؟
5 اختطاف الطوائف الشيعية
لقد مارست إيران دور الولي والمالك للطوائف الشيعية في العالم، فأقامت علاقات معها، وأمدتها بالأموال والسلاح في بعض الأحيان، وحرضتها على محيطها، ودفعتها إلى التبشير بالمذهب الشيعي، لذلك قام الصراع بين الطوائف الشيعية ومحيطها السني في معظم الدول العربية والأفريقية والآسيوية كباكستان وأفغانستان وماليزيا ونيجيريا والسنغال، وكانت نتيجة ذلك التفرق والاختلاف والتمزق وتدمير وحدة المجتمع، مما اضطر بعض الدول إلى اعتماد تشريعات تمنع التبشير بالمذهب الشيعي.
ليس من شك بأن النسر الأميركي عندما أطلق يد إيران من أجل نشر التشيع في المنطقة كان يقصد أن تكسر إيران حبة الجوز، ليخطفها بعد ذلك، بعد أن استعصت عليه حبة الجوز (الوحدة الثقافية للأمة) مرتين، الأولى بين الحربين العالميتين، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية، لكننا واثقون من أنهما سيفشلان لأن “الوحدة الثقافية للأمة” أقوى مما يتصورون.
المقال كما نشرته الجزيرة المنطقة بين الدب الروسي والتشيع الإيراني والنسر الأميركي