من الواضح أن أبرز إنجازات الربيع العربي هو إسقاط المشروع القومي العربي، فها هو قد سقط نظام مصر، وهو أبرز نظام قومي عربي، ثم ها هي أنظمة ليبيا واليمن وسوريا تتهاوى، وكلها أنظمة قومية عربية، وبهذا انتهى المشروع القومي العربي الذي شغل الأمة مائة عام، وبنت عليه الأمة آمالا في النهضة والتقدم والتصنيع والوحدة والقوة.
ولكن لم يتحقق أي أمل من تلك الآمال، بل على العكس من ذلك كان الضعف والانهزام والتأخر، لماذا حدث ذلك؟ حدث ذلك لأن القيادات القومية العربية التي قادت المنطقة لم تكن موضوعية ولا علمية في رؤية واقع المنطقة، فهي قد اعتبرت أن الأمة التي تسكن المنطقة من المحيط إلى الخليج تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وهذا موقف غير علمي وغير موضوعي، فإن استقراء الواقع الموضوعي لهذه المنطقة يجعلنا نقول إن هذه الأمة لا تقوم على عنصري اللغة والتاريخ فقط، بل هناك الدين الذي يدخل في تفصيلات حياة هذه الأمة النفسية والعقلية والتربوية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفنية، وقد جاء عدم الموضوعية والعلمية من النقل الحرفي لمفاهيم الأمة عند الأوروبيين في بعض الدول الأوروبية كألمانيا وإيطاليا، وقد استتبع ذلك نقل موقف أوروبا من الدين واعتماده في الموقف من الدين في منطقتنا، فالخطأ الرئيسي الذي وقعت فيه القيادات القومية العربية هو أنها نظرت إلى واقع النهضة بعيني أوروبا، ولم تنظر إليه بعينيها، فكان الزيغ وعدم الإبصار الحقيقي.
إن هذا الخطأ الذي استند إلى النقل الحرفي من الحضارة الغربية، وعدم اعتماد الموضوعية والعلمية في دراسة الواقع، هو الذي كلف الأمة هذا الثمن الباهظ في عدم تحقيق النهضة والازدهار والتقدم والتصنيع والوحدة.
ومما يؤكد ذلك أن الدول والشعوب التي تجنبت النقل الحرفي، واعتمدت العلمية والموضوعية في معالجة واقعها قد نجحت في تحقيق الأهداف التي رنت إليها من نهضة وعزة وتقدم. ويمكن أن نأخذ مثالين في هذا الصدد، هما: إسرائيل واليابان، فقد انطلقت قيادتا البلدين من الواقع فاعتبرتا الدين عاملا في تشكيل الأمة في كل من البلدين، واحترمتا هذا الواقع.
وربما كان السبب في إبعاد الدين عند القيادات القومية العربية هو وجود الأقليات الدينية في بلادنا، والتوجه إلى مراعاة هذه الأقليات وصياغة الإطار الذي يرضيها، فكان اختيار تشكيل قومية مع التغييب الكامل للعامل الديني في تشكيل هذه الأمة، ولكن هذه القومية فشلت في قيادة الأمة إلى النهضة لأنها راعت الأقليات ولم تراع الواقع، وأنا أعتقد أن الغرب كان له دور –باستمرار- في استغلال الأقليات، من أجل استعمار المنطقة، وقد كان هو الذي يدفع هذه الأقليات من أجل تبني صيغة في الفكر القومي تقصي الدين ولا تتعامل مع الواقع تعاملا سليما.
وقد بدأ استغلال الأقليات منذ مجيء نابليون لاحتلال مصر عام 1798 بعد الثورة الفرنسية وبروز المعلم يعقوب الذي تعاون مع الاحتلال الفرنسي، ثم رحل إلى باريس مع رحيل تلك القوات عندما تركت مصر عام 1802، وكذلك اتضح عندما تدخلت فرنسا عام 1860 في لبنان، واحتلت بيروت وجبل لبنان، ثم توصل الغرب مع الخلافة العثمانية إلى أن تكون فرنسا راعية للكاثوليك في أراضيها، وروسيا راعية للأرثوذكس، وبريطانيا راعية للدروز.
وإنني أعتقد أن الأمر لو ترك للطوائف والأقليات المذهبية لاحترمت عامل الدين في صياغة قومية هذه الأمة، لأنها كانت باستمرار جزءا من مكونات هذه الأمة، وكان لها دورها الحضاري الواضح في صياغة شخصية الأمة، وأبرز دليل على ذلك هو مساهمات الأسر المسيحية واليهودية في مسيرة التيار الحضاري من أمثال أسرة بختيشوع وأسرة نوبخت وأسرة حنين بن إسحاق، واحتل كثير من المسيحيين واليهود مناصب رفيعة في مختلف مراحل الحكم الإسلامي، وصلت إلى منصب الوزير.
ذكرت كل ذلك من أجل تسديد التوجه القادم لثورات الربيع العربي، وضرورة الاستفادة من التجربة الماضية في عدم تحقيق النهضة، وأنه يجب أن يجلب الربيع العربي المساواة والعدل والنهضة والبناء الحضاري والتقدم، في حالة استفادته من دروس الماضي، وأن أبرز درس يجب أن نستفيده من الماضي هو الانطلاق من الواقع في معالجة الظلم والفساد والاستبداد الذي ورثناه من المرحلة السابقة.
من الملاحظ أن هناك بعض المؤشرات التي تشير إلى أن بعض موجهي ثورات الربيع يكادون يقعون في ثلاثة أخطاء في معالجة الواقع، وهي أخطاء وقعت فيها القيادات القومية التي قادت المنطقة خلال القرن الماضي مما جعل نهضتنا تتعثر، وهذه الأخطاء، هي:
لا شك أن الأمة التي ثارت في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا تريد الحرية والعدل والمساواة والثروة والعزة والتقدم، وعلى القيادات أن تبني الأطر التي تحقق رغبات جماهير الأمة من جهة، وتراعي الواقع الموضوعي لهذه الجماهير من جهة ثانية، ولكن نجد أن بعض القيادات لا تراعي هذا الواقع في بنائها للإطار الديمقراطي الذي يحقق المساواة والعدل والمشاركة في محاسبة المسؤولين، وتحقيق تداول السلطة.
ويوضح ذلك حرص هذه القيادات على إقرار “”مبادئ ما فوق الدستور”” أو “”المبادئ الحاكمة للدستور””، وهذا يعني إلزام الأمة بنقل المبادئ الخاصة من الديمقراطية الغربية وعدم الاكتفاء بالعام منها.
ويؤكد ذلك أيضا ترحيب بعض القيادات العربية بتصريحات أردوغان التي أطلقها عندما زار مصر وتونس وليبيا حول العلمانية، ودعا جماهير الأمة إلى الالتزام بالعلمانية، ومن الجلي أن هذه الدعوة تصب في عدم مراعاة الواقع الذي يقوم على أن الدين عنصر إيجابي في بناء الواقع، ومن الجدير بالذكر أن تصريحات أردوغان قوبلت –أيضا- بالاستنكار والرفض من بعض القيادات العربية، وردت عليه بأن الواقع التاريخي الذي مرت به تركيا يبقى خاصا بتركيا وليس هناك ما يلزم بنقله إلى منطقتنا.
ومن الملاحظ أن وجود الأقليات العرقية والدينية مازال الهاجس الذي يدفع كثيرا من القيادات إلى عدم مراعاة الواقع الموضوعي لأمتنا، لكن على هذه القيادات أن تعي أن هذه الأقليات جزء من الواقع فهي ليست غريبة عنه وهي قد ساهمت في بنائه وصياغته من جهة، وأن عدم مراعاة الواقع الموضوعي سيجعل النهضة تتعرقل مائة سنة أخرى وستنعكس الخسارة على الأكثرية والأقلية من جهة ثانية، وأنه يمكن التوفيق بين حقوق ومصالح هذه الأقليات وبين الواقع الموضوعي كما حدث خلال مئات السنين الماضية من جهة ثالثة.
في النهاية يجب أن نعي أن الديمقراطية التي تتطلع إليها الأمة، واستهدفتها من الثورات التي قامت بها، ومن التضحيات التي قدمتها، تعني تحقيق العدل والمساواة لكل أفراد الأمة، وتعني محاسبة المسؤولين، وتعني اختيار الحاكم، وأن يكون حكمه برضا الجماهير وموافقتها وانتخابها له، وتعني حرية إبداء الرأي، وتعني تساوي جميع أبناء الأمة أمام القانون، وتعني تداول السلطة.
ويجب ألا تعني الديمقراطية عندنا نسبية الحقيقة -كما هي في الغرب- لأن لدينا أشياء ثابتة إلى قيام الساعة فيما يتعلق بالعقيدة والعبادة والأسرة، فإن إمضاء نسبية الحقيقة سيؤدي إلى فوضى لا نهاية لها في مختلف شعب الحياة الفكرية والخلقية والاعتقادية والسلوكية.
ويجب أن لا تعني الديمقراطية عندنا حرية الفرد المطلقة في كل المجالات –كما هي في الغرب- لأن ذلك سيؤدي إلى دمار وخراب، ومن الأمثلة على الآثار السيئة لحرية الفرد المطلقة: الأزمة الاقتصادية التي وقعت في أميركا وانعكست على كل أنحاء العالم عام 2008، والتي كانت بسبب حرية الفرد الاقتصادية التي لا تخضع لأية رقابة، مما اضطرهم إلى تعديل هذا الوضع ووضع الضوابط والرقابة المناسبة على حرية الفرد الاقتصادية.
ويجب ألا تعني الديمقراطية عندنا تقديم المصلحة والمنفعة على القيم الأخلاقية، كما هو في الغرب، بل يجب أن تعني تقديم الأخلاق والقيم على المصلحة والمنفعة إذا حدث تعارض بينهما.
المقال من رابط الجزيرة الربيع العربي والمشروع الديمقراطي