قراءة جديدة في أوراق قديمة … الاستراتيجية الصهيونية لتفتيت العالم العربي

(مقال جيد لحسن نافعه يلقي بعض الضوء على خطط لأعداء أمتنا من أجل تفتيتها أكثر مما هي مفتتة، وهو المقال الأول في سلسلة من أربعة مقالات. نقلا عن جريدة الحياة.)

أعتقد أن كثيرين مثلي يشعرون بقلق بالغ تجاه ما يجري فوق الأرض العربية ويطرحون تساؤلات حائرة حول ما عسى أن يكون عليه مستقبل منطقة أصبحت تمثل مسرحاً كبيراً لأكثر الأزمات سخونة في العالم. ففي العراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان

يتعرض ملايين المواطنين يوميا للقتل والتنكيل، أو للسجن والتعذيب، أو للطرد والتهجير، أو للقمع والترحيل، أو للجوع والتشريد. ولا تكاد أصوات الانفجارات تهدأ في مكان هنا حتى تدوي من جديد في مكان آخر هناك، بل إن دور العبادة نفسها والتي كانت دوما هي الملاذ الآمن لكل من يحتمي بها لم تصبح مجرد ساحات للمطاردة والقتل على الهوية وإنما تحولت في ذاتها إلى أهداف للقصف والتدمير. ووسط الركام الناجم عن تلك الفوضى الهائلة، يبدو الكل ممسكاً بخناق الكل من دون أن يدري أحد من يحارب من بالضبط ولا لأي هدف أو غرض يحارب.

لكن أكثر ما يثير الانزعاج هو أن الأزمات الحادة التي تمسك بخناق الدول التي سبقت الإشارة إليها تتجه نحو التصعيد والتعقيد والانتشار بفعل العدوى وتشابك المصالح والعلاقات وليس للتهدئة أو الانفراج. فإذا ما نحينا هذه الدول جانبا وألقينا نظرة سريعة على بقية الدول العربية التي لم نسمها وتبدو هادئة فوق السطح لا تسمع في جنباتها أصوات انفجارات أو تسيل فوق شوارعها أنهار من الدماء، فسوف نكتشف أنها ليست بدورها حصينة أو منيعة. فالمتابع الدقيق لما يجري في داخلها سرعان ما يكتشف أنها تغلي في العمق وأن أزماتها الكامنة تحت السطح تبدو قابلة للانفجار في أي لحظة.

ولا جدال في أن للأزمات التي تعم العالم العربي، المتفجرة منها والكامنة، جذوراً وأسباباً تبدو مختلفة، لكن رابطاً دقيقا يجمعها في الواقع وتبدو في سبيلها للتحول، إن لم تكن تحولت بالفعل، إلى حروب أهلية يخشى أن تؤدي إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات تنشأ وفق أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية. والسؤال: لماذا وصلنا إلى هذا الوضع؟ وهل هو ناجم عن عوامل تدمير ذاتي أم بفعل فاعل ووفق عمل مخطط وممنهج ومقصود؟

أعلم تمام العلم أن مجرد طرح هذا النوع من الأسئلة يثير لغطاً حاداً بين أوساط النخبة العربية، وأن أي محاولة للاجابة عليها سوف تخضع حتما للفرز والقولبة التقليديين اللذين يفضيان بها للتصنيف داخل إحدى مدرستين لا ثالث لهما: مدرسة المؤامرة، ومدرسة القصور الذاتي. ومن المعروف أن لدى المدرسة الأولى تفسيراً جاهزاً لكل كارثة أو مشكلة وتلقي بمسؤوليتها دائما على قوى خارجية كارهة للعالمين العربي والإسلامي، على رأسها إسرائيل والولايات المتحدة بالطبع، ليس لديها ما يشغلها سوى وضع الخطط تلو الأخرى للتآمر على العرب والمسلمين والعمل على إضعافهم وإخضاعهم.

ومن المعروف أيضا أن لدى المدرسة الثانية تفسيراً آخر يقف على طرف نقيض وينزع دوما نحو إلقاء اللائمة على أوجه قصور وتناقضات ذاتية كامنة في بنية النظم العربية والإسلامية نفسها. ولأن كلاً من المدرستين لا هم لها سوى نفي الأخرى وتحقيرها، فكان من الطبيعي أن تنشأ حال استقطاب فكري تصيب بالرعب كل من يحاول تجاوز أطروحاتهما التبسيطية وطرح تفسيرات أكثر شمولية وعقلانية. وكانت النتيجة إغفال مدرسة المؤامرة كليا لأوجه القصور الذاتي في بنية النظم والسياسات العربية والإسلامية وكأنها ليست موجودة أو مسؤولة عن بؤس الحال الذي وصلنا إليه، وتسفيه المدرسة النقيضة لأي حديث يشير، ولو تلميحاً، الى مؤمرات خارجية تحاك ضد العالم العربي، وكأنها أيضا ليست موجودة أو مسؤولة عن الكثير مما تعانيه الأمة.

وأظن أنه آن الأوان لتجاوز حال الاستقطاب الخطرة هذه وتمحيص ما يجري على الساحتين العربية والإسلامية من مختلف الزوايا والأبعاد داخلية كانت أم خارجية كي تتضح الصورة كاملة. فليس بوسع أي خطط تآمرية تحاك للعالمين العربي والإسلامي، والتي لا نشك لحظة في وجودها على نحو دائم ومكثف، أن تنجح جزئيا أو كليا لولا أوجه قصور عديدة ظاهرة وكامنة في بنى وسياسات الأنظمة العربية والإسلامية. وانطلاقا من هذا الاعتقاد يبدو لي ضروريا أن نناقش هنا طريقة تفكير العقل الصهيوني وإدراكه لطبيعة التحديات المستقبلية التي تواجه مشروعه لبناء دولة يهودية كبرى ومهيمنة في المنطقة وللسبل والوسائل التي يعتقد أنها متاحة وكفيلة، إذا ما أحسن استخدامها، للتغلب على كل ما يواجهه من تحديات.

ولإلقاء الضوء على هذه القضية اخترت مقالاً بعنوان: «استراتيجية من أجل إسرائيل في الثمانينات:

A Strategy for Israel in the Nineteen Eighties) كتبها باللغة العبرية صحافي وديبلوماسي إسرائيلي سابق يدعى أوديد ينون Oded Yinon، ونشرتها في شباط (فبراير) 1982 صحيفة Kivunim، ومعناها بالعربية «اتجاهات»، ثم تنبهت لها رابطة الخريجين العرب الأميركيين وكلفت البروفيسور والناشط الحقوقي الإسرائيلي المعروف إسرائيل شاهاك، أستاذ الكيمياء العضوية في الجامعة العبرية ورئيس الرابطة الإسرائيلية للحقوق الإنسانية والمدنية، بترجمتها إلى الانكليزية وكتابة مقدمة وخاتمة لها ونشرتها تحت عنوان «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط «The Zionist Plan for the Middle East».

يتساءل البعض عن مبررات الاعتماد على مقال كتبه صحافي مغمور، حتى ولو كان موظفاً سابقاً في وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتعامل معه وكأنه وثيقة رسمية صادرة عن الحركة الصهيونية أو الدولة الإسرائيلية، بدلاً من الاعتماد على وثائق صادرة عن جهات أو شخصيات رسمية لا تخلو عادة من مادة غزيرة يمكن الاستناد إليها في هذا الصدد. ولهؤلاء أقول إن البروفيسور شاحاك نفسه، وهو الدارس المتعمق للفكر الصهيوني، هو الذي أكد في مقدمة ترجمته الإنكليزية أن مقال ينون يعد، برغم كل ما تضمنه من قصور وتعميمات، أشمل ما كتب في هذا الموضوع ويعبر بدقة عن التيار الرئيسي في الفكر الصهيوني ويعكس بأمانة ما يجول داخل التيار الرئيسي للعقل الصهيوني في ما يتعلق بخطط تفتيت العالم العربي. وربما كانت هذه القناعة هي التي دفعته الى اختيار عنوان مثير للطبعة الإنكليزية التي نشرتها رابطة الخريجين العرب الأميركيين وهو «الخطة الصهيونية» مع الاحتفاظ بعنوان ينون على رأس مقاله المترجم.

وربما يتساءل آخرون: وهل يعقل أن تنشر الحركة الصهيونية خطة تفصح عن نياتها الحقيقية، حتى ولو بالعبرية؟ ومرة أخرى يتولى شاحاك بنفسه الإجابة عن هذا التساؤل طارحا تفسيرين، الأول: أن قصد الحركة الصهيونية من نشر هذه الوثيقة بالعبرية هو تثقيف الأجيال الجديدة للنخبة الإسرائيلية، خصوصاً العسكرية منها، بما يدور في عقل الأباء المؤسسين وتوعيتهم بأمور كانت تقتصر في ما مضى على تلقين شفهي تتناقله الأجيال ثبت أن له عيوبا ومحاذير كثيرة. والثاني: عدم ثقة في قدرة العقل العربي على التعامل الواعي مع ما تنطوي عليه خطط من هذا النوع من تهديد لمصالحه الاستراتيجية، حتى بعد نشرها، بسبب غياب أطر فاعلة لاتخاذ القرار وسهولة إدخال العقل العربي في متاهات مضللة.

فإذا ما حاولنا الآن تركيز الضوء على مقومات الاستراتيجية الصهيونية والأسس التي تقوم عليها، فسوف نجد أنها تنطوي على خطين أساسيين، الأول: رؤية الحركة الصهيونية لبنية المنطقة المحيطة بها على الأصعدة والمستويات كافة، خصوصاً الديموغرافية والاجتماعية والثقافية. والثاني: رؤية الحركة الصهيونية لأمن الدولة اليهودية وللوسائل التي تعتقد أنها كفيلة بتحقيق هذا الأمن على نحو مطلق، والذي هو غايتها النهائية.

وحول المحور الأول ترى الحركة الصهيونية أن العالم العربي، بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، لا يشكل كتلة واحدة متجانسة إثنيا أو دينيا أو اجتماعيا، وإنما منطقة شديدة التنوع تتكون من «موزاييك» من دول تتصارع في داخلها قبائل وطوائف وأقليات قومية وعرقية ودينية ومذهبية وغيرها، وأن الوحدات القائمة حاليا والتي يطلق عليها اسم «الدول العربية» صنعتها مصادفات تاريخية وسياسية نجمت عن محصلة التفاعل بين أطماع وطموحات قوى ومصالح خارجية (الاستعمار التقليدي الذي ورث الامبراطورية العثمانية) وداخلية (القبائل والعشائر والحركات السياسية والاجتماعية)، كما ترى الحركة أن هذه الوحدات ليست قابلة للدوام بوضعها الحالي ويمكن بالتالي، بل يسهل، تفكيك وإعادة تركيب المنطقة على أسس جديدة مختلفة.

وحول المحور الثاني ترى الحركة الصهيونية أن أمن إسرائيل لا يتحقق من خلال التفوق العسكري وحده، رغم أهميته القصوى، ومن ثم فإن الحاجة ماسة لتفكير استراتيجي جديد ومختلف. ووفقا لهذا التفكير يتعين على الحركة الصهيونية أن لا تسمح بقيام أو استمرار وجود أي دولة مركزية كبرى في المنطقة وأن تعمل كل ما في وسعها لتفتيت ما هو قائم منها وتحويله إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية أو عرقية. فإذا نجحت في ذلك تكون ضربت عصفورين بحجر واحد، الأول: أن تتحول إسرائيل نفسها إلى دولة طبيعية تقوم على أسس لا تختلف عن بقية الدول المجاورة، والثاني: أن تصبح إسرائيل هي الدولة الأكبر والأقوى والأكثر تقدما وبالتالي تأهيلا وقدرة على قيادة المنطقة والسيطرة على تفاعلاتها، وهو ما يمكن أن يسمح لها بأن تلعب دور ضابط الإيقاع الذي يتولى تنظيم وضبط علاقات المنطقة وفق رؤاها ومصالحها الخاصة.

ورغم أنه سبق لي أن أشرت في كتابات سابقة إلى مقال ينون، إلا أنني أعتقد أن هذا المقال – الوثيقة يستحق أن يعرض ويناقش بشكل تفصيلي. أما أسبابي لذلك فهي عديدة ويمكن تلخيصها وعرضها على النحو التالي:

1- ان المقال – الوثيقة نشر للمرة الأولى بعد سنوات من توقيع مصر على معاهدة سلام مع إسرائيل، وبعد شهور من اغتيال السادات، وقبل شهور من اتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء (25 نيسان – ابريل 1982). وعندما قامت إسرائيل بغزوها الشامل للبنان بعد أقل من أربعة أشهر على نشره تصرفت أثناءه وكأنها تطبق حرفيا ما ورد في هذه الخطة. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع رابطة العرب الأميركيين إلى الاهتمام بهذا المقال وترجمته ونشره في نهاية هذا العام نفسه، وحسنا فعلت.

2- بات الآن واضحا، وبما لا يقبل أي مجال للشك، أن الحركة الصهيونية بقيادة إسرائيل لعبت دورا محوريا في جر الإدارة الأميركية الحالية الى غزو العراق، وأن الإدارة الأميركية تصرفت في العراق وكأنها أداة في يد حركة صهيونية تضع تقسيم العراق على رأس أولوياتها باعتباره مقدمة لإعادة رسم وتخطيط المنطقة.

3- من حق الأجيال الشابة من المواطنين العرب علينا أن ننبهها الى ما يحاك لأوطانها وأن نحثها على دراسة ومناقشة كل الآراء، بما فيها تلك التي تبدو مسكونة بنظرية المؤامرة، حتى لا تفاجأ ذات يوم بأن مستقبلها ضاع وأن أوطانها سرقت منها.

وفي ضوء ما سبق، أستأذن القارئ في أن أخصص المقالات الثلاث التالية لمناقشة ما جاء في هذا المقال الوثيقة تفصيلا وأقترح تقسيمها على النحو التالي. المقال الأول: يخصص لمناقشة المخططات الصهيونية تجاه مصر وتطلعها لاستعادة سيناء، من ناحية، ولتفتيت ما تبقى منها وتقسيمه، من ناحية أخرى، إلى دولتين إحداهما قبطية في الجنوب والأخرى سنية في الشمال. أما المقال الثاني: فنخصصه لمناقشة المخططات الصهيونية تجاه المشرق العربي، وبخاصة الأردن ولبنان وسورية والعراق. والثالث: نخصصه لمناقشة المخططات الصهيونية في كل من منطقة الخليج العربي والشمال الإفريقي. ولا أعتقد عند قيامي بهذه المهمة أنني أشارك في بيع نظرية المؤامرة وإنما في تبصير شبابنا بمخاطر حقيقية.

اترك رد