tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

لماذا نجحت الثورات الآن؟

لماذا تفجر الربيع العربي وتحركت الشعوب ضد النظام؟ بماذا نفسر هذا السقوط السريع والمفاجئ والرائع لبعض الأنظمة العربية التي تملك أجهزة قمعية تعتبر في مقدمة الأجهزة القمعية في العالم؟ وبماذا نفسر هذا الحراك الكبير للشعوب، الذي هز عروش أنظمة متجذرة في ليبيا واليمن وسوريا؟ وبماذا نفسر هذين الأمرين. نجاح هذه الثورات وهذا الحراك للشعوب؟

ونحن من أجل أن نفسر نجاح هذه الثورات علينا أن نضع –بين أيدينا- معالم العلاقة التي كانت موجودة غداة الحرب العالمية الثانية بين الحكومات العربية والشعوب والجماهير، ثم نتدرج في رصدها إلى وقتنا الحالي.

لقد تحقق استقلال معظم الأقطار العربية بعد الحرب العالمية الثانية، وجاءت طبقة حاكمة جعلت مرجعيتها ومثلها الأعلى نموذج الحضارة الغربية بشقيها الشيوعي والرأسمالي في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والفن والتربية.. وجاءت شعوب محكومة في كل بلد عربي تعتبر نفسها جزءًا من أمة عربية إسلامية عريقة، تمتلك ثقافة واحدة، وتمتلك حضارة راقية، وتمتلك تاريخًا مجيدًا، وتتطلع إلى نهضة اقتصادية وعلمية واجتماعية حديثة تشارك من خلالها في عمران بلادها، وتساهم في تقدم البشرية.

ثم حاولت الطبقة الحاكمة التي قامت في مصر والعراق وسوريا وتونس والسودان تغريب الأمة سواء في الاتجاه الليبرالي أم في الاتجاه الشيوعي، ولكن الأمة قاومت ذلك، ولم تتفاعل مع ذلك التوجه بسبب مقوماتها التي تمتلكها، والتي تعتز بها، والتي تعتبر أنه يجب الانطلاق منها من أجل البناء الحضاري.

لذلك كانت العلاقة متوترة بين الحكام والشعوب، ولم تكن صحية بحال من الأحوال، لسببين:

  • الأول: التوجهات التغريبية التي حاول الحكام فرضها على الشعوب.
  • الثاني: عدم جماهيرية الحكام المتسلطين وقلة شعبيتهم منذ لحظة مجيئهم إلى الحكم، وأثناء فترات حكمهم أيضا.

فحزب البعث الذي قاد انقلاب عام 1968 لم يكن يتجاوز أعضاؤه مائتي شخص، وكذلك حزب البعث الذي حكم سوريا عام 1963 كان عدد أعضائه مئات فقط، وكذلك حكم جعفر النميري السودان سنة 69 بمساعدة عدد قليل من أعضاء الحزب الشيوعي.

وما يدل على استمرار ضعف جماهيرية هؤلاء الحكام هو هزال أحزابهم وضعفها التي استمرت لا تملك رصيدا حقيقيا بين الجماهير، ولا يقبلون عليها إلا مضطرين لقضاء حوائجهم التي لا بد من قضائها، ومن الملاحظ أن الحزب الوطني الذي بناه السادات وترأسه مبارك في مصر، لم يستطع أن يولّد حياة سياسية فاعلة، ويدل على ذلك قلة نسبة المشاركين في الانتخابات النيابية والرئاسية في عامي 2005 و2010، التي لم تتعد 2.5% من الشعب المصري.

ولم تقف صورة هزال الأحزاب عند مصر، بل يمكن أن نأخذ مثالاً آخر من سوريا، فقد ذكر باتريك سيل في كتابه “حافظ الأسد” أن حزب البعث أراد أن يعين أمينًا لفرع حزب البعث في مدينة دمشق، فلم يجد أحدا يسند إليه هذا المنصب من أهل المدينة -الذين كانوا يعدون بالملايين- بعد مرور عشر سنوات على تولي الحزب للحكم مما اضطره إلى إسناد أمانة فرع المدينة إلى شخص من إحدى قرى ريف دمشق.

ويمكن أن نقدم مثالاً آخر من الجزائر ففي الانتخابات التي أجراها الحكم في الجزائر في نهاية عام 1991، خسر الحزب الحاكم الانتخابات ولم يحصل إلا على عدد بسيط من مقاعد البرلمان بعد ثلاثين سنة من حكم الجزائر، وقد حصلت جبهة الإنقاذ على معظم مقاعد البرلمان مع أن عمرها لم يتعد سنتين.

لذلك لجأ هؤلاء الحاكمون إلى الاستبداد والقوة والبطش من أجل قيادة الجماهير، وإجبارها على الخضوع، ولم يتوقفوا عن قمع الاحتجاجات والانتفاضات والتمردات منذ الثمانينيات والتسعينيات بأقسى أنواع القمع والبطش في تونس ومصر وسوريا والعراق والسودان واليمن والجزائر.

مع كل هذا الهزال والضعف في الحكم، ومع كل هذا البطش والقتل للشعوب فإن هذه الأنظمة لم تخسر عامل الدعم الخارجي من قبل أميركا بخاصة ودول أوروبا بعامة، فهي قد سكتت عن كل إجرامها وبطشها وتجاوزها للحريات العامة، واستهتارها بكل حقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي تدعو إلى المحافظة على كرامة الإنسان، وهي في هذا كانت تكيل بمكيالين، فهي في الأقوال مع حقوق الإنسان والحريات، وفي الأفعال تدعم أنظمة ظالمة دكتاتورية تنتهك أبسط مبادئ الحريات وحقوق الإنسان.

رسمنا بعضًا من معالم الصورة التي كانت عليها الأنظمة العربية منذ الحرب العالمية الثانية إلى الوقت الحالي، فما الذي جعل بعضها يسقط الآن؟

لا شك أن هناك عدة عوامل، ساعدت على سقوطها، ونحن من أجل التوصل إلى حقائق واضحة ومحدّدة سنأخذ مصر مثالاً ونموذجًا على ذلك، ويمكن تعميم هذه الحقائق على أقطار أخرى. لقد جاء سقوط نظام حسني مبارك في 11/2/2011 نتيجة عدة عوامل هي:

الأول: أن عمليات التمرد والمواجهة والاحتجاج المتواصلة التي لم تتوقف خلال الثلاثين سنة الماضية قد أقامت بناءً تراكميًّا آتى أكله فأسقط النظام في النهاية، وقد بدأت المواجهات باغتيال السادات التي جاءت ثمرة لإقامة الصلح مع الصهاينة، ثم جاءت بعدها المواجهات مع الجماعة الإسلامية والجهاد، ثم كانت المعارضة والاحتجاجات على بعض ممارسات الحكم من الأحزاب التقليدية كالإخوان المسلمين والوفد والتجمع الديمقراطي والليبراليين والناصريين واليساريين.

ثم جاءت حركات الاحتجاجات على القمع الإسرائيلي لانتفاضة الأقصى عام 2000 والتضامن معها، والاعتراض على موقف النظام المخزي منها، والتي شملت جامعات القاهرة والإسكندرية والمنصورة، ثم تكونت “حركة عشرين مارس من أجل التغيير” التي انبثقت إثر التظاهرات الضخمة المناهضة لغزو العراق عام 2003، ثم ظهرت حركة “كفاية” عام 2004 تحت شعار “لا للتمديد..لا للتوريث”، ثم شهد عام 2005 بداية تحرك القضاة للمطالبة باستقلال القضاء، ثم شهد عام 2007 ولادة حركات “أطباء بلا حقوق” و”معلمون بلا نقابة” و”مهندسون ضد الحراسة”، كما اتسعت حركات المهددين بالطرد من بيوتهم كما في قلعة الكبش وإسطبل عنتر وأرض طوسون وقرصاية وغيرها، وشهدت اعتصامات ووقفات احتجاجية ودعاوى قضائية ومهرجانات فنية في رأس السنة شم النسيم.

وقد شهد عام 2008 “ثورة العطش” ومنازعات طوابير الخبز في البرلس ومطوبس، وامتدت توترات الخبز طوال شهور أبريل/نيسان ومايو/أيار ويونيو/حزيران عام 2008، كما شهد عام 2008 اشتباكات فلاحية في كثير من القرى لمقاومة الإقطاع القديم في استعادة أرض الإصلاح من الفلاحين، كما هدد 500 مزارع في قنا بالإضراب عن توريد محصول قصب السكر إذا لم تتراجع الحكومة عن قرار رفع أسعار الأسمدة، كما احتج الصيادون وتظاهروا أمام مجلس الشعب في مطلع عام 2008 نتيجة أشكال من الهيمنة على المورد المائي أدت إلى تجفيف فرص الصيادين في رحلة البحث عن رزقهم.

وقد رفضت الأحزاب نتائج انتخابات عام 2010 وأبرزها: الوفد، والكرامة، والجبهة الديمقراطية، والغد، والتجمع الناصري، والأحرار، والإخوان المسلمون. كما شارك في ذلك الرفض عدد من الحركات الاحتجاجية التي تشكلت وهي: “جبهة التغيير”، و”الحملة الشعبية من أجل التغيير”، و”أدباء وفنانون من أجل التغيير”، و”صحافيون من أجل التغيير”، و”مهندسون من أجل التغيير”، و”شباب من أجل التغيير”، و”طلاب من أجل التغيير”، و”أطفال من أجل التغيير”، و”فلاحون من أجل التغيير”، و”عمال من أجل التغيير”، و”مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات”، و”اللجنة الشعبية لحماية أصول الشعب” وهي التي رفضت بيع بنك القاهرة وقاومت بيع الأصول العامة التي يمتلكها الشعب المصري، كما رفضت التوجه نحو الخصخصة بشكل عام إلخ…

الثاني: الفساد الذي ارتبط بالاستبداد، والإثراء الفاحش لحسني مبارك وأولاده، وأركان حزبه الحاكم من أمثال صفوت الشريف وأحمد عز وفتحي سرور وأحمد نظيف وغيرهم، من خلال بيع الأراضي، ومن خلال أخذ العمولات على تمرير الصفقات الحكومية. وهذه السرقات المنظمة لاقتصاد مصر وسّعت مساحة الفقر، وجعلت قسمًا كبيرًا من الشعب المصري تحت خط الفقر، وألغت الطبقة المتوسطة من المجتمع، وهي الطبقة الأهم في حيوية المجتمع المصري.

الثالث: استسلام نظام حسني مبارك بشكل كامل لإسرائيل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ويتجلى ذلك في الاستجابة لطلبها بخصوص فرض الحصار الاقتصادي على قطاع غزة، وتهديد حياة مليون ونصف مليون فلسطيني في أبسط مقومات حياتهم من دواء وطعام وشراب وبناء بيوت.

ومع أنه يفترض في هذا النظام ألا يتجاوب مع إسرائيل في منع هذه المطالب الحياتية، ويفترض أن يوجد مخرجًا لهذه المطالب بحق العروبة والإسلام الذي يربط بين مصر وفلسطين، فإنه لم يكتف بأن لم يفعل شيئًا من هذا القبيل، بل نفذ إحكام الطوق عليهم، وسد منافذ الحياة عليهم بأن أقام على حدود غزة جدارا فولاذيا غائرا في عمق الأرض، وشاهقا في علو السماء.

الرابع: استسلام نظام حسني مبارك بشكل كامل لمخططات أميركا في المنطقة، ومما يؤكد ذلك تنفيذه الحرفي لاتفاقات كامب ديفيد فيما يتعلق بإخلاء سيناء وبقاء الجيش المصري بأعداد محددة وأسلحة محددة أيضا.

ويؤكد ذلك –أيضا- وقوفه إلى جانبها في فرض الحصار الجوي والاقتصادي على العراق بعد حرب الخليج عام 1991، وهو ما أدى إلى وفاة مليون عراقي، ثم وقوفه إلى جانبها فيما يتعلق باتفاقات أوسلو وتنفيذ بنودها، ثم وقوفه إلى جانبها في غزو العراق عام 2003 الذي أدى إلى حلّ جيشه وإنهاء الجبهة الشرقية في مواجهة إسرائيل، وتدمير بنيته العلمية والاقتصادية والزراعية، وتفكيك دولته الواحدة إلى دول طائفية: الأكراد في الشمال، والسنة في الوسط، والشيعة في الجنوب، وارتهان بتروله بأيدي السياسة الأميركية.

الخامس: أن المتابع لموضوع علاقة أميركا بنظام حسني مبارك يجد أن سياستها قد تغيرت نحوه فيما يتعلق ببعض الأمور وأبرزها علاقته مع الشعب، وقد بدأ هذا التغيّر منذ عهد كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية التي كانت تطلب إخراج بعض المعارضين من الحبس مثل أيمن نور وإبراهيم سعد الدين، وتطالبه بمزيد من الحريات للشعب.

وفي عهد أوباما ازدادت وتيرة التغيّر، فعندما بدأت الحركات الاحتجاجية في نهاية 2010 طلب أوباما من حسني مبارك أن يترك الشعب يعبّر عن رأيه وألا يقمعه، ثم طلب منه في مرحلة لاحقة التنحي و”تهيئة الظروف لانتقال سلمي وسلس للسلطة”، ولاشك أن هذه إشارات إلى تغيير في موقف أميركا من نظام حسني مبارك، والأرجح أنها هي التي شجعت الجيش على الوقوف على الحياد وعدم قمع المتظاهرين، فما السبب في تغير موقف أميركا من نظام حسني مبارك؟ هناك ثلاثة أسباب:

  • أ‌- شيخوخة النظام وترهله وأداؤه السيئ، وعدم قدرته على دفع الشعب المصري إلى التغريب وهو أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الأميركية في هذه المرحلة المطلوبة من الحكام.
  • ب‌- خشية أميركا أن يستفيد الإسلاميون -وهم التنظيمات الأقوى- من ضعف النظام وشيخوخته وترهله وفساده في زيادة حجم تنظيماتهم، فهي تريد أن تستبدل بمبارك حاكمًا أكثر حيوية يستطيع أن يقود مصر نحو التغريب بصورة أكثر فاعلية.
  • ج – غياب الاتحاد السوفياتي الذي كان يمكن أن يستفيد من تخلي أميركا عن هذه الأنظمة.

الخلاصة: أن هناك شرخًا بين الحكام والشعوب بعد الاستقلال، وذلك بسبب اعتماد الحكام الحضارة الغربية مرجعية ونموذجًا أعلى لهم وبسبب قلة شعبيتهم عند الناس، وقد ازداد هذا الشرخ عمقًا بين الحكام والشعوب بسبب الاستبداد والفساد المالي والاستخذاء أمام أميركا وإسرائيل، وبسبب تخلّي أميركا عنهم لفشلهم في تغريب الجماهير.

المقال في الجزيرة لماذا نجحت الثورات الان؟

اترك رد