tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

لماذا لم ننهض؟

إن الأوضاع التي نعيشها، والتردّي الذي نراه، والأزمات الداخلية التي تطحن مجتمعنا، والاضطراب الذي يلف حياتنا، والتمزق الذي يشمل دولنا، والعدو الصهيوني الذي يهدد وجودنا، والضياع الذي يشمل قسماً كبيراً من أبناء أمتنا، والجوع الذي يزحف إلى شعوبنا، والاستعمار الذي يبتز قياداتنا، والتبعية التي استنزفت خيراتنا إلخ… كل ذلك يجعلنا نقرر أننا لم ننهض، مع أن مشروع النهوض بدأ قبل حوالي مائتي سنة حسب أقوال منظري الانحطاط والنهوض، والسؤال الذي يترتب على الاعتراف بهذه الحقيقة، هو: لماذا لم ننهض؟ وهذا السؤال يستدعي سؤالاً آخر هو: ما المجال الذي يجب أن نبحث فيه حتى نعثر على جواب السؤال السابق؟

          يقترح بعض الدارسين التاريخ العثماني مجالاً للبحث، ويقترح بعضهم الآخر الانطلاق من مصر في عهد محمد علي باشا وجعلها نموذجاً للمقارنة مع اليابان، ويوجه بعض الدارسين بحثه إلى الجانب الديني من حياتنا الاجتماعية ويحمّل الموروثات الدينية المسؤولية، ولكن الأصوب والأجدى – في تقديري – هو البحث في الفكر القومي العربي الذي قاد مشروع النهضة خلال القرن الماضي، فهو الذي ساد العراق والحجاز وبلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى، وحكم مصر بعد وصول جمال عبدالناصر إلى قيادتها عام 1952م وأبعد الفكر القومي الفرعوني الذي سيطر عليها إثر ثورة 1919م التي قادها سعد زغلول، ثم نشر عبدالناصر بعد ذلك الفكر القومي العربي في كل العالم العربي، وقاد رجالات الفكر القومي العربي الدول العربية، وتبوّأ مفكرو الفكر القومي العربي عرش التنظير لها، وتحكمت نظريات الفكر القومي العربي في تربية الأجيال العربية، وسيطرت شعارات الفكر القومي العربي على أجهزة الإعلام العربية من صحف وإذاعات ومنتديات، وملأ الفكر القومي العربي العقول والقلوب بمعطياته، ووجّه الفكر القومي العربي الفنون والآداب حسب مقولاته إلخ…

          فما الذي استهدفه الفكر القومي العربي الذي ساد المنطقة خلال القرن الماضي وقادها؟ وما وسائله لتحقيق أهدافه؟ وما مدى نجاحه في تحقيق تلك الأهداف؟

          استهدف الفكر القومي العربي تكوين أمة عربية ذات حضارة مستقلة متميزة وكانت أداته في ذلك الفكرة القومية التي اتفقت دراساتها على أن هناك نوعين من العوامل تتداخلان في تشكيل الأمة هما:

          العوامل الموضوعية: وهي اللغة والتاريخ، والجنس الواحد، والإقليم الواحد، والمصالح المشتركة، والآمال الواحدة، والعادات والتقاليد الواحدة، والثقافة الواحدة إلخ…

          العوامل الذاتية: وهو وعي الأفراد بأن لهم شخصية متميزة ومنفصلة تدفعهم إلى التعبير التنظيمي عن هذه الشخصية المتميزة (1).

          عندما بدأ الفكر القومي نشاطه في نهاية القرن التاسع عشر اصطدم بأن هناك أمة إسلامية قائمة وكان الجنس العربي لا يعاني أية مشكلة فيها ، بل هو أحد أطرافها الرئيسيين ، لذلك يلحظ الدارس لتاريخية الفكر القومي العربي اختلافاً كبيراً بين أهداف الفكر القومي المطروح في نهاية القرن التاسع عشر وبين أهداف الفكر القومي بعد الحرب العالمية الأولى والثانية ، فلم يكن تشكيل أمة مستقلة ومنفصلة عن الأمة الإسلامية واضحاً في تلك المرحلة بل أقصى ما كان يطالب به الفكر القومي هو إصلاحات متنوعة ضمن الخلافة العثمانية ، ويدل على ذلك أن المؤتمر العربي المعقود في باريس من 18-23 يونيو/حزيران 1913م تناول مسألتين هما : أولاً : حقوق العرب في الامبراطورية ، وثانياً : الإصلاح الإداري على أساس اللامركزية(2) ، وكانت البيانات التي ألقاها المندوبون للمؤتمر العربي في الأيام الستة والمناقشات التي تلتها تدور حول ضرورة الاصلاح على أساس اللامركزية ، ولم يبحث المؤتمر قضية الانفصال عن العثمانيين ولم يطالب بشيء منه .

          استهدف الفكر القومي العربي بعد سقوط الخلافة العثمانية تكوين أمة عربية، لكنه وجد بأن كل العناصر الموضوعية التي يريد أن يصوغ منها الأمة العربية مرتبطة بالإسلام ارتباطاً وثيقاً، وتدور حوله، وتتغذى منه، فلو أخذنا التاريخ لوجدناه مرتبطاً بمعارك الإسلام مع أعدائه، وبانتصار المسلمين وهزيمتهم، وبقوّة دولة المسلمين وضعفها. ولو أخذنا اللغة العربية لوجدناها أصبحت لغة الأمة الإسلامية والثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية ، وأصبحت مرتبطة بالقرآن الكريم فالجهود التي بذلت في وضع قواعد النحو ، وفي تنقيط الحروف العربية وتشكيلها ، وفي وضع أصول معاجم اللغة استهدفت خدمة آيات القرآن الكريم من أن يدخلها التحريف واللحن ، ومن أجل أن تفهم على الوجه الصحيح ، وقد كان معظم الذين قاموا بتلك الجهود والابتكارات من غير العرب وليس لسانهم العربية ، إنما اهتموا باللغة العربية وأفرغوا جهودهم للمحافظة عليها لأنها لغة دينهم وقرآنهم ورسولهم (صلى الله عليه وسلم) (3) . ولو نظرنا إلى عامل الثقافة لوجدناه منوطاً بموازين الإسلام وتوجيهاته وقيمه، ولو دققنا في العادات والتقاليد لوجدناها منبثقة من تعليمات القرآن الكريم وسنّة الرسول (ومن أوامر الإسلام ونواهيه ومن الحلال والحرام اللذين أقرهما الشرع، ولو تفحصنا الفنون لوجدناها مرتبطة بقيم الجمال الإسلامية، ولو دققنا في الآمال المشتركة لوجدناها مرتبطة بحب الإسلام وبالرغبة في صموده وانتصاره وبموالاة المسلمين ومعاداة الكافرين إلخ…

          لقد اتضح لنا من العرض السابق أن الفكر القومي فشل في تشكيل أمة عربية لأن الساحة لم تكن خالية بل هناك أمة إسلامية عريقة متجذرة يعود تاريخها إلى أكثر من ألف عام ، صحيح أن الأمة الإسلامية فقدت قيادتها السياسية بسقوط الخلافة لكن بقيت جماهير المسلمين مؤمنة بالإسلام ، ملتفة حول قرآنه ، معظمة لرسوله ( صلى الله عليه وسلم)، مرتبطة بتعاليمه ، تابعة لعلمائه ، توّاقة إلى عودة أحكامه ، محبّة لتاريخه ، متعلقة بصحابته ، فرحة بتقدم المسلمين ، حزينة لانكسارهم وتأخرهم إلخ… وقد أدى فشل الفكر القومي في تكوين أمة إلى أننا لم ننهض لأن تكوين أمة هي البداية الحقيقية لأية نهضة ، فقد نهضت إيطاليا وألمانيا عندما كونتا أمة ، وكانت تكوين الأمة بدايتها للانطلاق الحضاري .       

          لقد شغل الفكر القومي العربي المنطقة خلال القرن الماضي بنقل الحضارة الغربية ، وهذا أمر طبيعي لأنه لم يكن يملك أي نموذج تاريخي خاص به في كل مراحله ، فنقل النموذج الديمقراطي الرأسمالي قبل الستينات ، ثم نقل النموذج الاشتراكي بعد الستينات فعرف مجتمعنا قبل الستينات الاقتصاد الرأسمالي ، وتشكيل الأحزاب ، والبرلمانات المنتخبة، وبروز المبادرة الفردية في بناء الاقتصاد ، وانتشار الاقتصاد الاستهلاكي ، وبروز المذهب الوضعي إلخ… ثم عرف مجتمعنا بعد الستينات النظام الاشتراكي ، والديمقراطية الموجهة ، ومقولات صراع الطبقات ، وسيطرة طبقة العمال والفلاحين ، ونمو القطاع العام وضمور القطاع الخاص ، وواقعية الأدب ، وبروز النزعات المادية في تفسير التاريخ إلخ…

          وقد أدى قيام الفكر القومي العربي إلى نقل النموذج الغربي بشقيه على مدار القرن الماضي إلى تصدي القيادات الإسلامية له، ووقوع معارك فكرية عنيفة بين الطرفين (4) حول الدين والعلم، والعروبة والإسلام، والحكم المدني والحكم الديني، والسفور والحجاب، والتراث والحداثة إلخ…

          وقد دعا الفكر القومي العربي في تلك المعارك إلى إبعاد الدين عن شؤون الحكم والاقتصاد والسياسة، ودعا إلى إحلال الرابطة القومية محل الرابطة الدينية، ودعا إلى إبعاد الدين عن نطاق حياتنا المدنية، ودعا إلى تحرير المرأة وسفورها إلخ… ولم يقف الأمر عند الصراع الفكري بل تعداه إلى تضييق القيادات القومية على العلماء والمتدينين حيناً، وإدخالهم السجون والمعتقلات والبطش بهم حيناً آخر. 

          وقد ترتبت عدة نتائج على نقل النموذجين الديمقراطي الرأسمالي والاشتراكي الشيوعي، منها:

          1- ضياع قسم من أبناء الأمة لعدم التحاقهم بالتغريب من جهة ولعدم استطاعتهم القيام بواجبات الانتماء إلى أمتهم الإسلامية من جهة ثانية.

          2- استغراب قسم من أبناء الأمة وانسلاخهم الكامل عن أمتهم واتباعهم النموذج الغربي في العادات والسلوك والثقافة.

          3- النجاح في تفكيك جانب من كيان الأمة الإسلامية، وترسيخ القطرية، وبروز الولاءات الإقليمية مما يهدد بفلتان الجانب المدني في حياتنا الاجتماعية، ويهدد وجودنا أخطر تهديد، لذلك نرى انهزاماتنا تتوالى أمام أعدائنا اليهود، ويترسّخ السقوط وينتفي النهوض.

          والسؤال الآن: على ضوء التحليل السابق الذي وضح لنا عدم استطاعة الفكر القومي تكوين أمة عربية تكون قاعدة للنهوض، وعلى العكس منذ ذلك أصبح عمله الأساسي منصباً على التصادم مع الأمة الإسلامية وتفكيك عناصر بنائها، فما هو أول واجباتنا من أجل النهوض؟ أول الواجبات إيقاف عبث الفكر والمناقحة القومي العربي بالأمة الإسلامية، والحفاظ على ما تبقى من كيانها وعناصر وجودها والدفاع عنه في وجه الاقتلاع الحضاري الذي تمارسه الحضارة الغربية، وتدعيم حقائق الدين الإسلامي في عقول المسلمين وقلوبهم، والمنافحة عنها بدفع الأباطيل التي يروجها المستغربون، وتهيئة المناخات الصحية للسلوك الإسلامي، وإحياء مشاريع الأوقاف الإسلامية وتوسيعها من أجل تدعيم الجانب المدني والاجتماعي والعلمي في حياة المسلمين.

          الخلاصة: كان الفكر القومي العربي عاملاً رئيسياً في أننا لم ننهض، لأنه قاد المنطقة خلال القرن الماضي ففشل في تكوين أمة عربية لأنه لم يكن يملك عناصر تكوينها، لذلك كان عمله خلال الفترة الماضية التصادم مع الأمة الإسلامية وتفكيك بنائها ونقل النموذجين الرأسمالي والشيوعي فكانت النتيجة بروز الإقليمية وضياع قسم من أبنائها وتغريب قسم آخر.     

الـــهوامش:

(1) ساطع الحصري، ما هي القومية؟ ص 251.

(2) المؤتمر العربي الأول المنعقد في قاعة الجمعية الجغرافية في شارع سان جرمان، ص10.

(3) لا يحتّم وجود لغة عربية انبثاق أمة عربية فتوليد أمة عربية أعقد من ذلك بكثير، لذلك فإن المفكرين القوميين يقولون: تملك كثير من الشعوب لغة واحدة ولم يتولد عنها أمة واحدة، والعكس صحيح أيضاً: تملك كثير من الشعوب أكثر من لغة وكوّنت أمة واحدة

(4) حاول كثير من المفكرين القوميين الالتفاف على موقف الفكر القومي العربي المعادي للدين بأن هذا موقف أشخاص وليس في صلب النظرية القومية، لكن الحقيقة أن اتجاه الفكر القومي العربي إلى الحضارة الغربية لنقل نموذجها سيجعله تلقائياً في صف العداء للدين الإسلامي.  

اترك رد