tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

حوار مع جريدة الأنباء

حوار الشيخ غازي التوبة مع ملحق الإيمان في جريدة الأنباء

سؤال 1: تشكل العولمة أحد أخطر التحديات التي يواجهها المسلمون في هذا العصر، خاصة بما تحويه من فرض أنماط موحدة فكرياً واجتماعياً واقتصادياً، كيف يمكننا مواجهة هذا الخطر؟

جواب 1: حتى نستطيع أن نجيب على كيفية مواجهة أخطار العولمة علينا أن ندرس ماهية العولمة، ثم أخطارها، ثم كيفية مواجهة هذه الأخطار.
تتألّف العولمة من ثلاثة أبعاد: اقتصادي، وسياسي، وتكنولوجي

وتجلّى البعد الاقتصادي للعولمة في تعميم الرأسمالية على كل المجتمعات الأخرى، فأصبحت قيم السوق، والتجارة الحرة، والانفتاح الاقتصادي، والتبادل التجاري، وانتقال السلع ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات هي القيم الرائجة، وتفرض أمريكا الرأسمالية على المجتمعات الأخرى عن طريق مؤسسات البنك الدولي، ومؤسسة النقد الدولية، وغيرها من المؤسسات العالمية التابعة للأمم المتحدة، وعن طريق الاتفاقات العالمية التي تقرها تلك المؤسسات كاتفاقية الجات وغيرها.

أما البعد السياسي للعولمة فتجلّى في انفراد أمريكا بقيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكيك منظومته الدولية، ومن الجدير بالملاحظة أنه لم تبلغ إمبراطورية في التاريخ بقوّة أمريكا العسكرية والاقتصادية، مما يجعل هذا التفرد خطيراً على الآخرين في كل المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية إلخ….

أما البعد التكنولوجي للعولمة فقد تجلّى في الثورة العلمية والتكنولوجية والخاصة بالتطورات المدهشة في عالم الكمبيوتر، فقد توصل الكمبيوتر الحالي إلى إجراء أكثر من ملياري عملية مختلفة في الثانية الواحدة وهو الأمر الذي كان يستغرق ألف عام لإجرائه في السابق، أما المجال الآخر من هذه الثورة فهو التطورات المثيرة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تتيح للأفراد والدول والمجتمعات للارتباط بعدد لا يحصى من الوسائل التي تتراوح بين الكبلات الضوئية والفاكسات ومحطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية الأرضية والفضائية.

والآن: ما هي أبرز أخطار العولمة؟

هناك خطران، هما: الفقر والتهميش، والأمركة الثقافية.

أما خطر الفقر والتهميش فيستنتج من تشغيل خمس المجتمع والاستغناء عن الأربع الأخماس الآخرين نتيجة التقنيات الجديدة المرتبطة بالكمبيوتر فخمس قوة العمل كافية لإنتاج جميع السلع، وسيدفع ذلك بأربعة أخماس المجتمع إلى حافة الفقر والجوع، ومن مخاطر العولمة أيضاً قضاؤها على حلم مجتمع الرفاه، وقضاؤها على الطبقة الوسطى التي هي الأصل في إحداث الاستقرار الاجتماعي، وفي إحداث النهضة والتطور الاجتماعي، ومن مخاطرها أيضاً دفعها بفئات اجتماعية متعددة إلى حافة الفقر والتهميش، وتشير الأرقام إلى أن 358 مليارديراً في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان العالم.

وأن هناك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84% من التجارة العالمية، ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدخرات العالمية. وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة، حيث تستأثر قلّة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية، في حين تعيش أغلبية السكان على الهامش، وسيؤدي ذلك إلى نتائج اجتماعية خطيرة. ونلاحظ في هذا الصدد أن ظاهرة فتح الأبواب على مصراعيها أمام التجارة الحرة باسم حرية السوق قد رافقتها نسبة مهولة من ازدياد الجريمة، فقد ارتفع حجم المبيعات في السوق العالمية لمادة الهيرويين إلى عشرين ضعفاً خلال العقدين الماضيين، أما المتاجرة بالكوكايين فقد ازدادت خمسين مرة.

أما الأمركة الثقافية الني يمكن أن نعتبرها من أبرز أخطار العولمة فسيكون لها أثر كبير في تكوين أو تعديل أو إلغاء الهويات الثقافية، ولكن أخطر ما في الأمركة نسبية الحقيقة التي تقوم عليها، وهي التي تتصادم تصادماً مباشراً مع ثوابت الدين الإسلامي المستمدة من النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة.

كيف نستطيع أن ندخل العولمة ونستفيد من إيجابياتها ونتجنب سلبياتها؟

هناك خطوتان مطلوبتان وملحتان من أجل مواجهة العولمة:

الأولى: تحصين الفرد وتجنيبه التهميش وغائلة الفقر القادمة وذلك بتفعيل مؤسسات التأمين الاجتماعي والتعويضات والرعاية الاجتماعية من جهة، والتخطيط لإحياء مؤسسات الوقف والتوسع فيها من جهة ثانية وبخاصة إذا علمنا أن امتنا ذات تجربة غنية في مجال الوقف، فقد عرفت مؤسسات وقفية متنوعة من أمثال المدارس والجامعات والمستوصفات والمستشفيات والدور والبساتين والخانات إلخ. . . وساهمت تلك المؤسسات في نشر العلم والمحافظة على الصحة وإغناء المحتاجين ورعاية الحيوانات وتدعيم الاقتصاد وسد الثغرات الاجتماعية إلخ. . . وقد مثلت تلك الأوقاف ثلث ثروة العالم الإسلامي.

الثانية: تحصين هوية الأمة وذلك بتدعيم وحدتها الثقافية، فالوحدة الثقافية هي المظهر الأخير الحي الفاعل الباقي من كيان أمتنا بعد التمزق السياسي والتشرذم الاقتصادي الذي تعرضت له خلال القرن الماضي، ولا شك أن هذه الوحدة الثقافية لبنة أساسية في مواجهة العولمة ، لذلك يجب الحرص على إغنائها  ووعي ثوابتها، وأبرزها:

أصول الدين الإسلامي وأحكامه المستمدة من النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة.

واللغة العربية التي تعتبر أداة تواصل ووسيلة تفكير وتوحيد إلخ…..

كذلك يجب الحرص على الابتعاد عن كل ما يخلخل هذه الوحدة الثقافية ويضعف حيويتها.

سؤال 2: هناك من يؤكد أنّ الطريق إلى الرقي والتقدم يبدأ بالتخفف من الدين وتعاليمه أسوة بما فعل الغرب، ما رأيك؟

جواب 2: إنّ موقف الغرب من الدين موقف خاص، جاء نتيجة تجربة تاريخية خاصة ومسار خاص، فقد لعبت الكنيسة دوراً مميزاً في أوروبا في العصور الوسطى، وكانت مبادئها وتعليماتها ذات دور فاعل فيها، وأبرز مبادئها التي ناقضت الفطرة فيها:

نظرتها إلى الشهوات والجسد والدنيا من جهة، وحكمها على بعض الآراء العلمية وأصحابها بالهرطقة والزندقة والكفر من جهة ثانية.

احتقرت الكنيسة الشهوات والجسد والدنيا، فاعتبرت الشهوات دنساً يجب الترفع عنه واعتبرت أنّ الرهبنة طريق التطهر، لذلك ازدهرت الأديرة التي تؤوي الرهبان وكثرت ولعبت بالتالي دوراً رئيسياً في حياة أوروبا في العصور الوسطى، كما اعتبرت الجسد سجناً للروح لذلك يجب تعذيب الجسد وقتله من أجل انطلاق الروح، كما اعتبرت الدنيا عقبة في طريق الآخرة لذلك أهملت الدنيا واهتمت بالآخرة وحدها، وهي قد ناقضت الفطرة في كل نظرياتها تلك، وكانت لنظرياتها تلك أسوأ النتائج على العلاقة بين جماهير الناس وبين الدين ورجاله.

كذلك أخطأت الكنيسة مع علماء أوروبا الذين توصلوا إلى حقائق ونظريات نتيجة جهود عقلية وعلمية قاموا بها واستفادوا بعضها من حضارتنا الإسلامية، لكن الكنيسة اعتبرت تلك الحقائق والنظريات هرطقة وزندقة لأنها تخالف بعض مقولات توارثتها واعتمدتها المجامع الكنيسية، وحاكمت العلماء على أقوالهم ونظرياتهم وسجنت بعضهم وأعدمت بعضهم الآخر.

وربما جاء هذا التصادم بين رجال الكنيسة والعلم على خلفية الرواية التي تقول إنّ الله عاقب آدم عليه السلام بإخراجه من الجنة لأنه خالف أوامره فأكل من شجرة المعرفة.

إنّ الأزمة التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى والتي أدت بها إلى الانفجار والثورات وإلى إبعاد الدين المسيحي ورجالاته عن أي مجال من مجالات الحياة كان أحد أسبابها مخالفة رجال الكنيسة للفطرة التي تجلت في احتقار الكنيسة للشهوات والدنيا والجسد من جهة وإلى إنكارها فطرية العلم من جهة ثانية.

لذلك لا نستطيع أن نعمم التجربة التاريخية الخاصة التي مر بها الغرب على أمتنا، لأنّ الإسلام لم يعاد العلم ولم يحدث تصادم بين رجال الدين ورجال العلم، بل كان علماء الدين هم علماء الدنيا، فكنت تجد الفقيه وعالم الأصول ومفسر القرآن وجامع الحديث عالماً بالكيمياء والفيزياء والميكانيك والفلك والطب الخ. . .

وعلى العكس من ذلك فإنّ طريق الرقي والتقدم يكون بالتمسك بالدين الإسلامي لأنه عامل رئيسي في تكوين شخصية الأمة إن لم يكن العامل الوحيد.

السؤال 3: هل الدعوة مسؤولية كل من يعتلي المنابر فقط، وما هي الشروط الواجبة توافرها لمن يتصدى لمهام الدعوة؟

الجواب 3: الدعوة مسؤولية كل مسلم، حض عليها الإسلام فقال تعالى:

(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) (فصلت،33).

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:

“لأن يهدي الله بك رجلاً خيراً لك مما طلعت عليه الشمس”.

وقد أبرز القرآن الكريم ثلاثة أساليب دعوية جمعها قوله تعالى:

(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل،125).

  • الأسلوب الأول: الدعوة بالحكمة، أي باستعمال الحجج العقلية البرهانية.
  • والأسلوب الثاني: الموعظة الحسنة، أي تحريك العواطف والمشاعر بصورة حسنة وليس بصورة فظة قاسية.
  • الأسلوب الثالث: مجادلة المدعو مع اختيار الأسلوب الأحسن في المجادلة من أجل إقناع المدعو.

ويجب أن يراعي الداعي في كل الأحوال ظروف المدعو ويختار الوقت والمكان المناسبين من أجل إنجاح دعوته، وقد قدّم القرآن الكريم النبي نوحاً عليه السلام نموذجاً أعلى في تغيير أساليب الدعوة من إسرار وإعلان وتغيير الوقت من ليل ونهار، فقال تعالى:

(قال ربي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً . فلم يزدهم دعائي إلا فراراً. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً. ثم إني دعوتهم جهاراً. ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً. فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً) (نوح،5-10).

ويجب أن يتصف الداعي بعدة صفات:

أولها: أن يكون داعياً لله ليس لطائفة أو حزب أو جماعة، وأن تكون دعوته انطلاقاً من أمر الله ونهيه.

ثانيها: أن يكون عاملاً بما يدعو إليه وبما يقوله، لذلك استنكر القرآن أمر الذي يقول ولا يعمل بقوله، قال تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف،1-2).

وقال الشاعر قديماً:

لا تنه عن خلف وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

ثالثها: أن يكون عالماً بالحكم الشرعي في المسألة التي يدعو إليها لكي يبين للمدعو حكم ما يدعوه إليه ويبصره بما خفي عليه أو جهله، ويجب أن يحرص الداعي في النهاية على أن تكون النتيجة تقارباً مع المدعو، ويجب أن يدعو الداعي إلى الأهم ثم الأهم بمعنى أن يبدأ بالدعوة إلى الفرض ثم الواجب ثم السنة، ويجب أن يراعي الداعي حال المدعو ومثالنا في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يعطي أجوبة مختلفة عن السؤال الواحد مراعاة لحال السائل.

سؤال 4: كيف تصفون حال الأمة الإسلامية في هذا الزمان، وكيف السبيل إلى وحدة الصف وجمع الشمل؟

جواب 4: بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونزل القرآن الكريم عليه في غار حراء، وجاهد المشركين في مكة، ثم هاجر إلى المدينة، ثم انتقل إلى جوار ربه بعد أن خلف لنا أمة عظيمة وصفها القرآن بثلاث صفات هي: الخيرية، والوسطية، والوحدة.

وجاءت الصفات من ثلاث آيات فجاءت الخيرية من قوله تعالى:

(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران،10).

وجاءت الوسطية من قوله تعالى:

(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة،143).

وجاءت الوحدة من قوله تعالى:

(إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء،92).

وقوله تعالى:

(إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون،52).

وقد تحققت تلك الصفات في التاريخ الإسلامي، وتحوّلت إلى مؤسسات ووقائع، فتحوّلت صفة الخيرية التي نتجت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مؤسسة الحسبة التي يرأسها محتسب يساعده أعوان، ومن واجباتهم منع التعديات على الشوارع وتأكيد المرور بدون معيقات، ومن المعيقات زيادة في الأوعية تمتد إلى الشوارع أو حيوانات مربوطة، أو ميازيب مياه المطر، أو وضع البسطات للبيع في الشوارع. ومن واجبات المحتسب المحافظة على نظافة الشوارع من المزابل والأوساخ، وإصلاح الطرقات كي تبقى صالحة للاستعمال وكنسها.

ومن واجباته أيضاً إقامة العدالة ليس على الأحرار وحدهم، بل يتعدّاهم إلى العبيد الذين يجب أن لا يُحَمَّلوا فوق طاقتهم، وكذلك الحيوانات التي يمنع من تحميلها فوق طاقتها. والأسواق من اختصاصات نظر المحتسب، فيمكنه أن يعيّن لكل حرفة عريفاً، وعليه أن يعرّف مقاييس كل حرفة لكي يمنع الغش والتدليس فيها من جهة، ولكي يتأكد من تطبيقها من أجل إنتاج سلع حسنة الصنع من جهة ثانية. وعليه أن يمنع الاحتكار، كما عليه أن يمنع التاجر البيع بأسعار تقل كثيراً عن أسعار السوق، كما يمنع من تلقي الركبان خارج المدينة لشراء بضاعتهم بأسعار تختلف عن أسعار السوق إلخ. . .
ويمارس المحتسب التَّعْزير، وهي العقوبات غير المقررة في الشرع، لأنّ العقوبات المُقرّرة من حق القاضي، وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كِبَر الذنوب وصِغرها وبحسب حال المذنب وبحسب حال الذنب في قِلّته وكثرته.
أما صفة الوسطية فقد رأينا أنّ الله -تعالى- وصف الأمة الإسلامية بأنها أمة وسط لتشهد على الأمم السابقة والأمم اللاحقة، أما شهادتها على الأمم السابقة التي جاءت قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فستكون يوم القيامة، وقد وضح ذلك الحديث الذي ذكره أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“يجئ النبي يوم القيامة ومعه الرجلان ويجئ النبي ومعه الثلاثة وأكثر من ذلك وأقل فيقال له هل بلّغت قومك؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلّغكم؟ فيقولون لا. فيقال من شهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فتدعى أمة محمد فيقال هل بلغ هذا؟ فيقولون نعم. فيقول وما علمكم بذلك؟ فيقولون أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه، قال فذلكم قوله تعالى:

(وكذلك جعلناكُم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (رواه ابن ماجه).

أما الأمم اللاحقة التي ستجيء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فيؤكد شهادة أمة محمد عليها قوله تعالى:

(ولتكونوا شهداء على الناس) (البقرة 143).

فقد جاءت صيغة العبارة بالمضارعة، والمضارعة تعني الاستمرارية في الشهادة، وستتضمن هذه الشهادة دعوة البشر إلى التوحيد وعبادة الله، وتخليصهم من الشرك والأوثان، وهذا الواجب مستمر إلى قيام الساعة وذلك لأن الأمة الإسلامية هي أمة آخر رسول بعثه الله -سبحانه تعالى- وأمة آخر كتاب أنزله الله تعالى إلى البشر.
وبالفعل فقد حقق المسلم على مدار العصور واجب الشهادة فأصبح داعياً إلى الله في كل أحواله: حين يتاجر، وحين يسافر، وحين يتعبّد، وحين يتعلم الخ. . . لذلك وصل الإسلام بفضل الإحساس بهذه الرسالة، والقيام بهذا الواجب أصقاع لم تصلها الجيوش الإسلامية بحال من الأحوال، مثل: جنوب صحراء أفريقيا، وماليزيا، والفلبين، وإندونيسيا، وشمالي آسيا، وغرب أفريقيا الخ. . . وقد ساعد المسلم على القيام بواجب الشهادة وجود أوقاف ضخمة بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي، وخدمت المسلم والمجتمع في مجال التعليم والصحة والأسرة والاقتصاد الخ. . .
أما الصفة الثالثة وهي صفة الوحدة فقد تجلت في أمور متعددة، منها: العقيدة الواحدة التي كانت تؤمن بها، والقبلة الواحدة التي تتجه إليها، والشريعة الواحدة التي كانت ترجع إليها إلخ. . .
ومما ساعد على استمرار وحدة الأمة وجود ثقافة إسلامية مستمدة من القرآن والسنة اللذين أعطيا المسلمين تصوّراً عن الكون، ولفتا انتباههم إلى دقّة نظامه، وبيّنا لهم مادة خلق الإنسان وكيفيّة نشأته، وفصّلا لهم صفات ربّهم الذي ليس كمثله شيء، ووضّحا لهم جانباً من عالم الغيب بما فيه من ملائكة وجنّة ونار، وقصّا عليهم قصص الأمم السابقة ووجّها نظرهم إلى الاعتبار من سيرتها، ووضّحا لهم السلوك الأمثل للنجاح في الدنيا والنّجاة في الآخرة، وحدّدا لهم هدفاً أسمى وهو تحقيق العبوديّة لله تعالى، وبيّنا لهم الحلال والحرام والمشتبهات، وأوجبا عليهم إتيان الحلال والابتعاد عن الحرام والمشتبهات، وقد كانت نتيجة ذلك كلّه أن قام مجتمع يلتزم مبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه، وقامت حكومة تنشر الإسلام وتدعو إليه وتدافع عن حرماته، وقامت أسرة تراعي آداب الإسلام وتغرس الفضائل في نفوس أبنائها، وقام اقتصاد يتجنّب الربا ويجمع الزكاة، وقامت فنون تراعي قيم الجمال الإسلامية، وقام فرد ذو حيويّة نفسية وعقلية عالية الخ. . . إذن شكّلت حقائق الإسلام ومبادئه وقيمه وأفكاره وأخلاقه نسيج الثقافة الإسلامية التي كانت غذاء للفرد والمجتمع المسلمين على مدار القرون السابقة. وقد قام العلماء على مدار التاريخ بدور عظيم في المحافظة على وحدة الأمة.
هذه بعض صفات أمتنا التي وصفها القرآن الكريم بها والتي تحققت على مدار التاريخ الماضي: أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجسّد ذلك في مؤسسة الحسبة، وأمة وسط تشهد على الأمم السابقة والمعاصرة لها وتجسّد ذلك بنشر الإسلام في الأصقاع المحيطة بها من جهة، وبمؤسسة الأوقاف التي بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي من جهة ثانية، وأمة واحدة وقد تجسد ذلك في ظاهرتين: الثقافة الواحدة والعلماء، ولكن وجدت إلى جانب تلك الإيجابيات سلبيات نتجت عن أمراض منها: البعد عن العقيدة الصحيحة حيناً، واتباع الشهوات والأهواء حيناً آخر، والابتعاد عن مبدأ الاختيار والشورى في الحكم حيناً ثالثاً الخ. . . ثم انضاف إلى تلك الأمراض التحدّي الأكبر للأمة والذي جاء من الحضارة الغربية، وقد تفاعلت كل تلك العوامل وأدت إلى سقوط الخلافة الإسلامية وتجزأت الأمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً الخ. . . وهدّدها التغريب، لكن بقيت نقطتان مضيئتان في واقع الأمة المظلم، هما: الوحدة الثقافية والعلماء، ومن أبرزهم في القرن الماضي: عبد الكريم الخطابي، عمر المختار، عبد الحميد باديس، عز الدين القسام، محمد سعيد النوري، حسن البنا الخ. . .
لذلك فإننا في توجهنا الآن لإحياء الأمة، ولتوحيد الصف، وجمع الشمل، علينا أن نستفيد من الإيجابيات الموجودة في واقع حياة الأمة وأبرزها: الوحدة الثقافية، ظاهرة العلماء، وعلينا أن نقوم بثلاثة أمور: الأول: تفعيل الوحدة الثقافية التي تقوم على القرآن والسنة واللغة العربية، والثاني: الالتفاف حول العلماء، والثالث: التسليم والعمل بالنصوص القطعية، والاجتهاد يكون مع النصوص الظنية.

سؤال 5: هناك من يتهم التيار الإسلامي برفض الرأي الآخر والتعددية السياسية، إلى أي مدى يمكن تفنيد هذا الاتهام؟

جواب 5: تردد هذا الاتهام كثيراً في الآونة الأخيرة، ولتوضيح موقف التيار الإسلامي من هذا سندرس الموضوع من ثلاثة زوايا: الشرع والتاريخ والحاضر.

أما الشرع فإنه مع كل أمر فطري، ولما كان التعدد والاختلاف ظاهرة فطرية مبثوثة في كل مظاهر الحياة: فهناك الأقوياء والضعفاء، والأذكياء و الأغبياء، والأغنياء والفقراء، والأبيض والأسود الخ. . . لذلك بيّن القرآن أنّ الله خلق الناس شعوباً وقبائل لحكمة التعارف فقال:

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات،13).

لذلك لا يمكن أن يكون الناس مختلفي القوى و الإمكانات والطبائع والعقول والنفوس الخ. . . ثم يأتي الشرع ويصوغهم في صورة واحدة، لذلك أمر الشرع بالفروض وهي: الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، والزكاة في العام مرة، والحج مرة إلى بيت الله خلال العمر كله، ثم ندب الشرع المسلم إلى النوافل والسنن والصدقات يأتي منها حسب طاقته وظروفه، وفي كل الأحوال لم يجعل الدين المسلم يقع في الحرج لذلك قال تعالى:

(وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج،78).

وقال تعالى:

(فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن،16).

أما زاوية التاريخ فإننا نجد المجتمع الإسلامي عرف التعدد والتنوع كأغنى ما عرفه مجتمع بشري، فقد عرف المذاهب الفقهية المتنوعة التي عبرت عن اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان، فكان منها المذاهب الأربعة المشهورة: مذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

كما عرف المجتمع الإسلامي مذاهب أخرى لم تشتهر اشتهار الذاهب السابقة منها: مذهب الأوزاعي، ومذهب الحسن البصري الخ. . .، كما عرف مدارس مختلفة في أصول الفقه وفي قواعد الاجتهاد.

وقد عرف المجتمع الإسلامي تنوعاً في الشعوب والأعراف والقبائل لم يعرفه مجتمع على مدار الحياة البشرية، حتى إننا نستطيع أن نقول بكل ثقة إنّ الدين الإسلامي حقق العالمية التي كانت حلم الفلاسفة والمصلحين، لذلك نجد أنّ العرب والفرس والأتراك والبربر والأكراد والهنود ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية ودافعوا عنها، واحتلوا مراكز قيادية وسياسية وعلمية واجتماعية واقتصادية في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة.

وقد عرف المجتمع الإسلامي تنوعاً في الأديان، فقد مارس النصراني واليهودي والهندوسي طقوس دياناتهم وعباداتهم في حرية واستقلال كاملين، وقد عرفت بعض الديانات أزهى عصورها ضمن المجتمع الإسلامي ومن هذه الديانات اليهودية في الأندلس.

وقد عرف المجتمع الإسلامي تفاعلاً مع الثقافات السابقة كما لم يعرفه مجتمع آخر، فلم يقمعها ولم يحرمها، بل انفتح عليها، وتفاعل معها، وبدأ التفاعل بالترجمة، فقد ترجم المسلمون علوم اليونان والهند، واستفادوا من بعضها، وردّوا على بعضها الآخر.

هذه صورة المسلمين في التاريخ الماضي، تنوع وتعدد ضمن بوتقة الأمة الواحدة. والآن نعود لنتساءل: ما الذي سيكون عليه وضع التيار الإسلامي في العصر الحديث إزاء التعدد والتنوع؟

الجواب: سيحكم التيار الإسلامي أمران: الشرع من جهة، والتجربة التاريخية من جهة ثانية، فقد رأينا أنّ الشرع مع التعدد والتنوع لأنّ التنوع والتعدد من الفطرة، وما كان للشرع أن يعادي أمراً فطرياً، بل جاء الشرع لتحقيق الفطرة، هذا من ناحية، أما من ناحية التجربة التاريخية فقد رأينا أنّ تجربة المسلمين غنيّة في تحقيق التنوع والتعدد، بل نستطيع أن نؤكد إنها قد حققت هذا التعدد والتنوع بشكل لم تحققه أية تجربة تاريخية أخرى.

والآن نعود إلى الحاضر فإننا بكل أسف نقول: إنّ المتهمين للتيار الإسلامي برفض التعددية والرأي الآخر، يحصرون التعددية والرأي الآخر: بالدعوة إلى الكفر والطعن في الدين والاستهزاء بالقيم الغيبة من جهة، والدعوة إلى التهتك والإباحية من جهة ثانية، ولكننا نرد على هؤلاء المتهمين بأنّ لكل مجتمع محرمات لا يجوز تجاوزها، ومقدسات لا يجوز مساسها، ولو أخذنا المجتمعات التي يستشهدون بها فإننا نجد أنّ هذا الشرط متحقق فيها، ويمكن أن نمثل على ذلك بفرنسا التي هي أعرق الدول في رسوخ قيم الحرية، وأوسعها في قبول التعددية والرأي الآخر ومع ذلك فإنّ هناك محرمات لا يسمح المجتمع بتجاوزها، وأبرز مثال على ذلك الحديث عن الهولوكوست، ليس هذا فحسب، بل عدد القتلى الذين ذهبوا نتيجة عمليات الإبادة النازية، فعندما تعرض غارودي لعدد القتلى، ووجد مبالغة في ذلك، وناقش الروايات التاريخية التي تناولت الموضوع، حُوّل للمحاكمة لأنه تناول محرماً في عرف المجتمع الفرنسي.
الخلاصة: إنّ اتهام الآخرين للتيار الإسلامي بأنه يرفض الرأي الآخر غير صحيح، ويفند ذلك التجربة التاريخية الإسلامية التي عرفت التنوع والتعدد كأغنى ما يكون التعدد والتنوع، ولأنّ ذلك من الفطرة ولا يمكن أن يكون الإسلام مناقضاً للفطرة، بل جاء الإسلام لتحقيق الفطرة.

 

اترك رد