tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

لماذا كان حزب التحرير غير فعّال ومحدود التأثير؟

نشأ حزب التحرير في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وصدرت عنه عدّة دراسات تعطي انطباعاً أولياً بأنه حزب منظّم، وأنه يملك رؤية كاملة لمختلف قضايا الأمّة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ…، ويطرح رأياً محدّداً في مختلف الشؤون الشرعية، ويهتمّ بالشأن السياسي، ويقدّم تحليلات سياسية لكل الأحداث التي تتعرّض لها الأمّة، ويوحي للمطّلع على تحليلاته السياسية بأنه لا يقف عند ظواهر الحدث السياسي بل إنه يملك رؤية مسبقة للقوانين التي تحكم سياسات الدول الكبرى، وللقواعد التي تحكم تصرّفاتها ويبيّن الحزب في كراساته أنه حدّد مراحل لتطوير الحزب، ومراحل لتدرّج العضو.

وقد أعلى الحزب من شأن الفكر والأفكار والتفكير، وتحقيقاً لكل تلك الأمور السابقة فقد أصدر الحزب كتباً توضّح فيها آراءه عنها، ومن هذه الكتب: دستور الدولة الإسلامية، ونظام الإسلام، والنظام الاقتصادي في الإسلام، والنظام الاجتماعي في الإسلام، والنظام السياسي في الإسلام، والشخصية الإسلامية، والتكتّل الحزبي إلخ…

        إن المسلم المتابع للشأن الإسلامي في ذلك الوقت، والذي عرف كل تلك الأشياء عن حزب التحرير في مطلع الخمسينات، يتوقّع أن يكون لهذا الحزب شأن في الساحات والأحداث والوقائع التي ستشهدها الأمّة، وبخاصة إذا قارنه بالأحزاب والجماعات القائمة في تلك المرحلة والتي يغلب عليها الطرح العام، وعدم الوضوح في الأهداف والوسائل، والتي يسودها عدم الدقّة في التنظيم وتغيب عنها المرحلية إلخ…

        لكن الدارس لوضع الحزب في نهاية القرن العشرين يفاجأ بأنه لم يكن حزباً فعّالاً بل كان على هامش أحداث العالمين العربي والإسلامي، ومما يؤكّد تلك الهامشية أنه لم يملك أية جماهير واسعة في أي وقت من الأوقات ولا في مكان من الأمكنة مع أن عمله امتدّ على خمسين سنة متوالية وشمل كل بقاع العالم الإسلامي، وقد أشارت تحقيقات “الحياة” عن حزب التحرير بتاريخ 20 و21 من آذار (مارس) 2004م إلى أنه قام بمحاولتين انقلابيّتين اثنتين: في الأردن ومصر، لكن الحقيقة أنها هي محاولة انقلابية واحدة، وهي التي قام بها في الأردن والتي أحبطها العمل الفدائي عام 1968م بالتعاون مع السلطات الأردنية، لكن الثانية التي قادها صالح سرية في مصر عام 1974م، وكان مخططها الانطلاق من الكلية الفنية العسكرية، ثم استهداف مبنى مجلس الشعب الذي سيتواجد فيه الرئيس أنور السادات، فهي محاولة لا علاقة لها بحزب التحرير، فصالح سرية ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في العراق، ثم أصبح مسؤول الكفاح المسلّح في عمّان قبل أحداث أيلول عام 1970م، لأنه كان أنشأ أثناء ارتباطه بالإخوان المسلمين العراقيّين منظمة فلسطينية ذات محتوى إسلامي، ثم حاول اغتيال صدّام حسين وأحمد حسن البكر عام 1973م، لكن المحاولة فشلت مما اضطره للهرب إلى سورية، ثم الإقامة في مصر، والعمل في الجامعة العربية، وكان على علاقة بقيادات الإخوان وأبرزهم زينب الغزالي، ثم أقام تنظيماً إسلامياً جهادياً، ويعتبر هذا التنظيم أصلاً لكل الجماعات الجهادية التي قامت في مصر بعد ذلك، ثم اتهم بمحاولة الانقلاب عام 1974م والتي سمّيت بقضية الكلية الفنية العسكرية والتي انتهت بإعدامه، ومن المؤكّد أنه لا علاقة لتلك المحاولة بحزب التحرير، لكن السلطات المصرية ربطت بين تلك المحاولة وحزب التحرير مع اليقين بأنه صالح سرية من الإخوان المسلمين من أجل الترويج بأن أطرافاً خارجية بعيدة وليست قريبة كالإخوان المسلمين تضعضع الاستقرار في مصر، كعادة الدول والأنظمة في الربط بين أي محاولة تمرّد والخارج من أجل الإيحاء بأن الشعب منقاد لها وأن قوى خارجية هي التي تعكّر أمن البلد واستقراره، وبخاصة أن الإخوان المسلمين في مصر كانوا على وفاق مع الدولة آنذاك.

        بعد هذا التوضيح، يأتي السؤال: لماذا لم يكن الحزب فعّالاً ولم يمتلك جماهيرية واسعة في أي وقت من الأوقات مع أنه كان علنيّاً منذ اللحظة الأولى؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال سنجتهد أن نبحث عن الجواب فيما طرحه الحزب ودعا إليه.

        عند استعراضنا الكتب التي اعتمدها الحزب والتي أعلن فيها عن آرائه ووجهات نظره نجد هناك حديثاً بارزاً عن الأفكار والفكر والتفكير، فهو تحدّث عن الأفكار الإسلامية وإعادة الثقة بها، وعن الصراع الفكري الذي ينتهي بصحة أفكار الإسلام والثقة بها، ويتحدّث الحزب بأن إنقاذ الأمّة إنما يكون بالثورة الفكرية، ويعتبر أن أكبر داء أصاب المسلمين هو زعزعة ثقتهم بأفكار الإسلام، ويرسم الحزب أسلوب الدعوة فيحدّده بقيام قيادة فكرية معتمد على الفكر وحده، ويعتبر الحزب أن النهضة هي الارتفاع الفكري، ويحدّد المعيار الذي يتم على أساسه رفض الأفكار وهو كونها أفكار كفر أو أحكام كفر، ولا يصحّ بيان بطلانها بأنها لا تحقّق المصلحة وبأنها ينجم ضرر عن تطبيقها، ويحدّد الحزب عوامل ضعف الدولة الإسلامية التي سبقت ذهابها في عاملين: ضعف فهم الإسلام، وإساءة تطبيقه، كما يذكر عبد القديم زلوم في كتابه “هكذا هدمت الخلافة” أن سبب سقوط الخلافة الإسلامية هو عدم إدراك الأمّة للقضايا المصيرية وعدم إدراك الإجراءات الواجب اتخاذها، كما يعتبر الحزب أن فهم الإسلام فهماً صحيحاً هو الذي يعيد دولة الإسلام، وأن الذي يحفظ دولة الإسلام هو استمرارها على الفهم الصحيح، وتؤكّد بعض كتب حزب التحرير على الثقافة الحزبية، وتعتبر أن الحزب يمرّ بثلاث مراحل: أولاها: مرحلة الدراسة والتعليم لإيجاد الثقافة الحزبية. ثانيها: مرحلة التفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه حتى يصبح المبدأ عرفاً ناتجاً عن وعي. ثالثها: مرحلة تسلم زمام الحكم عن طريق الأمّة تسلّماً كاملاً.

        خلاصة ما سبق أن الحزب يعلي من شأن العقل وما يتعلّق به من عمليّات فكرية وأفكار وتفكير، وهذا أمر طيّب يثلج الصدر ويفرح به أي مسلم متابع للشأن العام في تلك المرحلة، والأرجح أن هذا التوجّه جاء كردّ فعل على التوجّهات الصوفية التي كانت تملأ الوسط الإسلامي، والتي كانت تجعل الخطاب أقرب إلى الغيبية منه إلى العقل والتفكير.

          لكن الأمر المفاجئ أن مثل هذا الحديث الكثيف عن الفكر والأفكار والتفكير عند الحزب أقرب إلى الشعار منه إلى الحقيقة لأنه لم يتجسّد في وعي الواقع، ولم يتمثّل في أدوات منهجية تحلّل الواقع وتشرّحه، ولم ينعكس في قدرة على نقد الأفكار وتقويمها، فالمفترض في حزب لديه مثل هذه التخمة في الحديث عن الفكر والأفكار أن ينتقل من التعميم إلى التخصيص في تقويمه وغربلته لأفكار الواقع المحيط بالأمّة، فهو مثلاً لم ينتقل من التعميم إلى التخصيص في حديثه عن ربط أهمّية الأفكار في نهوض الأمم وسقوطها وبناء المجتمعات والأفراد إلخ…، فهو لم يقدّم أمثلة عن الأفكار التي أدّت إلى ضعف الأمّة وسقوط الخلافة، كما لم يقدّم أمثلة تفصيلية للأفكار التي تساعد الأمّة على النهوض، وهو -كذلك- لم يقدّم نقداً للأفكار الخاطئة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأصولي والفقهي إلخ… والتي كانت يجب استبدالها أو تجاوزها، لكنه اكتفى بعرض الأنظمة الإسلامية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دون التعرض للأخطاء التاريخية التي تشكّل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتي يجب تجاوزها واستئصالها من واقع المسلمين وحياتهم. كما أنه لم يقدّم نقداً للتصوّف الذي كان يسود المجتمع الإسلامي والذي كان الخلفية التي وجّهته في كثير من مواقفه إلخ…

          حرص الحزب كما رأينا على إغناء أفكار المسلم وتفكيره، وهذا أمر سليم، لكن الحزب أغفل -في الوقت نفسه- إغناء القلب إغفالاً تاماً وهذا مخالف لمنهجية الإسلام، فالإسلام يحرص على أن يُعمل المسلم عقله، ويملأه بأفكار صحيحة عن الله والكون والحياة والإنسان والآخرة، ويحرص -في الوقت نفسه- أن يعالج القلب، ويملأه بحب الله وحده أكثر من كل محبوبات الدنيا، وأن يخاف مقام الله وعذاب الله، وأن يرجو نعيم الله، وأن يعظّم الله لأن الله يستحقّ التعظيم والإجلال، وأن يثق بالله، وأن يتوكّل عليه -سبحانه وتعالى- إلخ… إذن يعتبر الإسلام الأمرين ضروريّين لفوز الإنسان، لكن المشكلة في حزب التحرير أنه اهتمّ بالأمر الأول بغض النظر عن تقويمنا لصوابية الأفكار التي طرحها، وأهمل الأمر الثاني وهو القلب وغذاؤه، وهو أمر أساسي في المنهجية الإسلامية من أجل توليد الفاعلية للفرد المسلم في الدنيا، لكن الحزب أهمل بناء القلب نهائياً لأنه اعتبره على الأرجح من ميراث التصوّف، مما جعله يفقد عنصراً رئيسيّاً في حيوية بناء الفرد، وتفعيل قدرته على الصمود في وجه العقبات مما ولّد ظاهرة الارتباط بالحزب لفترة محدودة ثم الانفضاض عنه.

        من الواضح أن حزب التحرير له ارتباط واسع بالقضية الفلسطينية من ناحية أن مؤسٍّسه فلسطيني، وأن نشأة الحزب جاءت بعد نكبة فلسطين مباشرة، وبأن فلسطين أوسع المناطق لانتشاره، وقد وصل أحد أعضائه إلى البرلمان الأردني قبل نكسة 1967م، وقد اعتبر الحزب منذ نشأته أن سقوط الخلافة هي الثغرة التي ضاعت منها فلسطين، واعتبر أن إقامة الدولة الإسلامية هي الكفيلة بتحرير فلسطين، ثم جاء العمل الفدائي في الستينات ليدخل عنصراً جديداً في ساحة العمل العربي بعامة والفلسطيني بخاصة، ومع ذلك فقد بقي الحزب على موقفه رافضاً لأي عمل فدائي، ومعتبراً أن فرضية الجهاد مرتبطة بوجود الخليفة وقيام الدولة، وبأن الجهاد -الآن- في غياب الخليفة والدولة ليس مفروضاً على المسلمين، وقد أصرّ الحزب على هذا الموقف بسبب غياب مفهوم الأمّة عنده، إذ العنصر البارز عنده الدولة، والأرجح أن هذا الموقف من القضية الفلسطينية عامل رئيسي في تهميشه، وتصبح الصورة أكثر وضوحاً إذا قارنّا موقفه الجامد من القضية الفلسطينية بموقف حركة القوميّين العرب، فالحزب والحركة نشأ بعد النكبة وكردّ فعل عليها، ولكن حركة القوميّين العرب تجاوبت مع بعض الإشارات التي صدرت في المنطقة والتي تمثّلت في نشوء العمل الفدائي عام 1965م، فأنشأت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتمارس القتال في فلسطين في حين أن الحزب بقي جامداً على موقفه يعتبر أن الجهاد في فلسطين غير واجب وعليها أن تنتظر الخليفة والدولة.

        هذه بعض معالم صورة حزب التحرير من تاريخهم منتصف القرن العشرين ونهاية القرن العشرين، بداية واعدة وفي النهاية تأثير محدودة، وبينهما حديث كثير عن الفكر والأفكار والتفكير، لكن هذا الحديث الكثير عن الفكر والأفكار التفكير لم يدفع الحزب إلى التفكير في وضعه، فلم تصدر أية دراسة خلال نصف قرن تقوّم وضعه، وترصد مسيرته، وتراجع الأهداف وتتفحّص الوسائل، وتتساءل: لماذا لم يمتلك أية جماهير حتى الآن؟ ألم نقل إن الحديث عن الفكر والأفكار والتفكير شعار وليس حقيقة؟!!

“حزب التحرير الإسلامي”: بدايات واعدة وتأثير محدود من موقع سعورس

 

اترك رد