tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

بماذا نفسر نجاح حركة النهضة؟

بماذا نفسر نجاح حركة النهضة؟

فسر بعض المحللين ثورات الربيع العربي تفسيرات اقتصادية، وربطوا نجاحها في تونس ومصر بالطبقة الوسطى، وبنضج العوامل المولدة للثورات واشتمالها عليها، وعللوا تأخرها في سوريا إلى أن الطبقة الوسطى في مدينتي حلب ودمشق لم تتجاوب مع الثورة، وذلك هو السبب في تأخر نجاح الثورة السورية، وعلل الباحثون أنفسهم اضطرار ليبيا للاستعانة بحلف الناتو من أجل إسقاط نظام القذافي بعدم وجود الطبقة الوسطى، وعدم نضج ظروف الثورة هناك

وكان هناك عدة متحدثين بالمنطق السابق، وأبرزهم محمد حسنين هيكل وميشيل كيلو، لكن محمد حداد الكاتب التونسي اعتبر أن زين العابدين بن علي كان ممثلا للطبقة الشعبية، التي كانت تعيش على التجمعات الهامشية في أطراف المدن التي تسكنها الطبقة المتوسطة، لكن حركة النهضة نجحت في مخاطبة هذه الطبقة الشعبية المهمشة لذلك فازت في الانتخابات الأخيرة، في حين أن الحركات اليسارية انشغلت في أمور تنظيمية لذلك نجحت النهضة وفشل اليسار.

إن التفسيرات السابقة لنجاح الثورات العربية أو تعثرها، وربطها بالطبقة الوسطى والعوامل الاقتصادية تفسير قاصر، فالأرجح أن هذه المصطلحات التي جاءت وليدة المجتمعات الغربية والتطورات التاريخية الغربية لا تنطبق على مجتمعاتنا، والأرجح أن إنزالها على واقعنا فيه تعسف ولا يعطي تفسيرا حقيقيا للواقع، فما التفسير الذي يمكن أن نعطيه لقيام هذه الثورات ونجاحها أو عدم نجاحها؟

لقد قام صراع خلال القرن الماضي بين تيارين:
التيار الأول: يدعو إلى التغريب، ويأخذ الحضارة نموذجا له، وتجسد في أحزاب وشخصيات وهيئات حملت الفكر القومي حينا، والاشتراكية حينا آخر، والعلمانية حينا ثالثا، وتوصلت هذه الأحزاب والتيارات والشخصيات إلى الحكم، وأقامت دولا، ونفذت برامجها في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والإعلامية والتربوية والثقافية.

لتيار الثاني: يدعو إلى النموذج الإسلامي، ويحرص على ثوابت الدين، ويسعى إلى المحافظة على هوية الأمة، ويسعى إلى إقامة حضارة تزاوج بين التراث الإسلامي والحضارة الغربية. وقد حكم التيار الأول قطرين عربيين رئيسين بعد الحرب العالمية الأولى هما مصر والعراق، وقد حكم حزب الوفد مصر بقيادة سعد زغلول، وقد تبنى الوفد فكرا قوميا مصريا وفرعونيا وأقام نظاما ديمقراطيا، واقتصادا رأسماليا، أما العراق فقد حكمه الملك فيصل مع عدة شخصيات عربية أبرزها ساطع الحصري، وقد تبنى فكرا قوميا عربيا، وأقام نظاما ديمقراطيا واقتصادا رأسماليا.

لكن هذا التيار -بين الحربين العالميتين- اصطدم بحرص جماهير الأمة على إسلامها ودينها وهويتها فلم تتفاعل مع التغريب ومفرداته، مما جعل كثيرا من رموز التيار الأول ينقلبون على ماضيهم، ويكتبون لاسترضاء التيار الديني، فكتب محمد حسين هيكل عدة كتب، منها: في منزل الوحي، حياة محمد، حياة أبو بكر، حياة الفاروق… إلخ. كما كتب طه حسين إسلامياته من مثل: مرآة الإسلام، على هامش السيرة، عثمان، علي وبنوه… إلخ. كما كتب عباس محمود العقاد العبقريات التي اشتملت على: عبقرية محمد، وعبقرية أبو بكر، وعبقرية عمر، وعبقرية عثمان… إلخ، واشتملت كتبا إسلامية أخرى من مثل: الله، إبليس، المرأة في القرآن الكريم، التفكير فريضة دينية… إلخ. وقد كتب هؤلاء الكتاب وغيرهم عشرات الكتب التي تعترف بقوة التيار الديني من جهة، وتحاول أن تكلمه بلغته من جهة أخرى، وتجتهد أن تؤثر فيه من جهة ثالثة.

ثم انقلبت الصفحة مرة ثانية في الخمسينيات والستينيات، فأصبح التيار التغريبي يحمل لونا آخر غير اللون الديمقراطي العلماني الرأسمالي، فحمل لونا قوميا عربيا اشتراكيا وأصبح التيار التغريبي في موقف الفعل في حين أن التيار الإسلامي في موقف رد الفعل، وساد العالم العربي تيار اشتراكي يعادي الإسلام ورموزه، ويعتبره أصل التخلف، وعقبة في طريق النهضة، ويتطلع إلى استئصاله من حياة المجتمع العربي.

لكن نكسة عام 1967 التي أوقعت الهزيمة بالجيش المصري والأردني والسوري، وجعلت إسرائيل تحتل سيناء والضفة الغربية والجولان، أنهت هذه المرحلة من فعل التيار التغريبي، وانتقل الفعل إلى التيار الإسلامي، وبرزت الصحوة الإسلامية ورافقها عدد من المظاهر الإسلامية كالعودة إلى الحجاب، واكتظاظ المساجد بالمصلين، ورواج الكتاب الإسلامي، وإنشاء البنوك والمصارف الإسلامية وغيرها.

لكن الغرب أظهر العداء للعالم الإسلامي في بداية التسعينيات بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ولعبت مقولة صموئيل هننغتون في صراع الحضارات دورا واضحا، وجعلت العالم الإسلامي هو الخطر الأكبر على الحضارة الغربية، ثم كانت ذروة الصدام في أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 بتدمير برجي التجارة العالميين في نيويورك، وهو الذي أطلق حملة مكافحة الإرهاب الإسلامي، والتي أدت إلى احتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003. ثم جاء الربيع العربي وقد أزال أكبر نظامين استبداديين فاسدين هما نظام مبارك في مصر، ونظام زين العابدين في تونس.

 ومن الواضح أن الأمور في تونس تتجه إلى الاستقرار، بعد أن جرت الانتخابات في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وفازت حركة النهضة بـ40% من الأصوات، وحوالي تسعين مقعدا من المجلس التأسيسي، فبماذا نفسر هذا الانتصار؟ وما المطلوب من حركة النهضة الإسلامية؟

من المعلوم أن النهضة قُمعت قبل أكثر من عشرين سنة بأقسى أنواع القمع، فسُجن عشرات الآلاف من أعضائها، وعذبوا كذلك بأشد أنواع التعذيب، واستمرت أشد أنواع الرقابة عليهم خلال العشرين سنة الماضية، ومُنع أي نشاط لهم في أي مجال شعبي أو نقابي أو جامعي أو حكومي… إلخ، وهرب الآلاف منهم إلى الخارج، وكانوا باستمرار تحت أعين النظام وجواسيسه، وكانوا باستمرار معرضين للتضييق عليهم في الدول الغربية بسبب ملاحقة النظام التونسي لهم، ولم يقف النظام عند ملاحقة حركة النهضة وحدها بل اتجه إلى مبدأ “”تجفيف المنابع”” الذي تجسد في ملاحقة كل مظاهر التدين في تونس، ومحاصرتها، واقتلاعها من حياة الشعب التونسي، لكن زين العابدين هو الذي “”انقلع”” وهو الذي استُئصل من حياة الشعب التونسي في 14 يناير/كانون الثاني 2011.

فمن الواضح من خلال المراحل السابقة أن النهضة استُهدِفت بشكل مباشر خلال العقدين الماضيين، ليس هذا فحسب بل استهدف الدين الذي تنتسب وتدعو إليه بالاستئصال، بالإضافة إلى أن كادرها لم يساهم بشكل مباشر في بداية انطلاق الثورة، وذلك لسبب جلي هو أن أعضاءها كانوا مغيبين في السجون والمنافي والمراقبات، فبماذا نفسر -إذن- هذا النجاح الكبير في الانتخابات؟

نفسر ذلك بأن الشعب في تونس منحاز للإسلام، لذلك اختار النهضة لأنها ذات توجه إسلامي، وهذا يؤكد أمرا يغفل عنه كثير من الدارسين هو أن هناك واقعا اجتماعيا بشريا متجانسا وهو ما يمكن أن نسميه أمة عربية إسلامية، وهي أمة فاعلة لها وجود واقعي، وهي ذات بناء ثقافي واحد، وذات بناء نفسي موحد، وذات تطلعات وأشواق واحدة، وذات آمال مشتركة.

وهذه الأمة هي السند والداعم الذي يعطي العون والدفع والتأييد لكل ما هو إسلامي، وهي العامل الرئيس الذي أنجح كل الجماعات والأحزاب والشخصيات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي على مدى القرن العشرين الماضي، مع كل الحروب التي شنها الأعداء على الإسلام وعلى دعاته، ومع كل التشكيكات التي تناولت عقائده وحقائقه ومفاهيمه ولغته… إلخ، فما واجب حزب النهضة إزاء أمته في تونس والعالم العربي؟

يجب على حركة النهضة في تونس أن تسعى إلى تعميق الوجود الإسلامي في حياة الشعب التونسي، وإلى زيادة مساحة الوجود الإسلامي في الحياة التونسية ليشمل المناحي التي لم تصلها أخلاق الإسلام وآدابه وتعليماته، وإلى أن تجعل تعاليم الإسلام مرجعية لكل الشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والتربوية والفنية.

وأن تساعد الشعب التونسي على أن يعيش مع رحمة الإسلام وأنواره وحقائقه، لتقدم صورة مشرقة عن الحياة في ظل الإسلام لبقية أبناء الأمة الإسلامية في أركان العالم الإسلامي من جهة، ولتقدم نموذجا مضيئاً للبشرية تتضح فيه فطرية الإسلام وعظمته من جهة ثانية.

المقال كما ورد في الجزيرة بماذا نفسر نجاح حركة النهضة؟

قراءات في مؤتمر حركة النهضة التونسية سلسلة من أربعة حلقات | د.غازي التوبة

Lorem Ipsum

اترك رد