tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

المخاطر التي تتربص بثورات الأمة

ليس من شك في أن ثورات الأمة التي قامت في كل من تونس ومصر والتي أزالت هذين النظامين الطاغيين الفاسدين، والثورات الأخرى التي ما زالت مشتعلة في البحرين واليمن وليبيا والمغرب.. إلخ، دلّت على أن هذه الأمة حيّة، وأنها ما زالت تتطلع إلى ما هو أفضل.

وأكدت أن الأنظمة الموجودة لم تأخذ شرعيتها، وأن كل الإفسادات الممنهجة التي قامت بها هذه الأنظمة من أجل تفكيك منظومة الأمة الثقافية وجعلها -في النهاية– تضيع وتتيه وتزلّ وتخضع وتتلاشى, لم تنجح في هذا الإفساد الممنهج بل تصدت لها الأمة، وتبين أنها ما زالت تملك حيوية تدفعها إلى رفض الأوضاع الفاسدة والتطلع إلى تحقيق ذاتها من أجل المساهمة في البناء الحضاري الإنساني.

إن الثورتين اللتين قامتا في تونس ومصر, وأنجزتا إزاحة النظامين المستبدين, تتميزان بأنه لم تتبلور لهما قيادات معلنة ومعروفة ولا برامج تفصيلية، سوى أن هناك قيادات شبابية من جهة، ومن برامجها التي تحدثت عنها: إيقاف الفساد والتصدي لسرقات المال العام، وإرساء حرية الأحزاب والانتخابات، وإلغاء حالة الطوارئ, وهذا ما يجعلنا نتخوف من أن تدخل عليها قوى تسيرها في اتجاه مضاد لمصالح الأمة، وأبرز هذه القوى ثلاث:

الولايات المتحدة، وإسرائيل، وإيران، ونحن سنرصد كيفية تأثير هذه القوى في ثورات الأمة، والمسارات التي يمكن أن تدفع فيها هذه الثورات.

أولاً: الولايات المتحدة الأميركية

تستخدم أميركا ثلاث أدوات من أجل تجيير ثورات الأمة لصالحها هي: الفوضى الخلاقة، الديمقراطية، المؤسسات الدولية، وسنستعرض كيفية استخدام أميركا لكل أداة من الأدوات السابقة.

الأولى: الفوضى الخلاقة: تعني الفوضى الخلاقة إثارة الحروب، أو الاضطرابات الطائفية والعرقية والإثنية من أجل إحداث تفكيك ثقافي وسياسي لمنظومة أمتنا الفكرية والاجتماعية، وقد صرحت وزيرة خارجية أميركا السابقة كوندوليزا رايس حول هذا المعنى عندما كانت الحرب مشتعلة في يوليو/تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان، وقالت: “”إنها تشهد ولادة شرق أوسط جديد””.

وقد أنشأت أميركا من أجل تحقيق الفوضى الخلاقة كثيرًا من المؤسسات المشتركة بينها وبين بلدان الشرق الأوسط، ورصدت لها ملايين الدولارات، ووضعت لها برامج محددة، ونظمت كثيرا من الشباب من الدول العربية كمصر والأردن وتونس, في هذه المؤسسات المنشأة، واستقدمت قسمًا منهم إلى أميركا وعرفتهم بمزايا الغرب والنظم الديمقراطية وقيمها، ودربتهم على قيادة الجماهير.

ومن المؤكد أن وسائل العصر من هواتف وتلفزيون وفيديو وإنترنت وفيسبوك وتويتر كانت حاضرة في كل مراحل التدريب والتعليم، وهي ستستخدمهم عند الحاجة من أجل توجيه الأوضاع في اتجاه الأهداف التي تريد تحقيقها.

لذلك فعلى القيادات الفاعلة في هذه الثورات الناشئة أن تنتبه إلى قيادات الفوضى الخلاقة وتحاصر تأثيرها السلبي.

الثانية: الديمقراطية: تتطلع شعوبنا إلى الديمقراطية باعتبارها أداة لتحقيق العدل، وإزالة الاستبداد والتسلط، وإجراء الانتخابات, وإطلاق الحريات, وتمكين الشعب من تداول السلطة، واختيار الحكام ومحاسبتهم، وهذا أمر مشروع ومطلوب ويجب أن نحرص عليه, لكن أميركا تريد الديمقراطية أداة لتفكيك المنظومة الفكرية والثقافية لأمتنا، وذلك من خلال ترسيخ وتطبيق مضمون الديمقراطية الذي يقوم على عدة مبادئ هي:

1- مبدأ الفردية، واعتبار الفرد هو الأصل في الحياة والمجتمع والكون، ويجب إعطاؤه حريته دون أية قيود في أي مجال من المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والشخصية, وإذا تعارضت الفردية مع الجانب الجماعي في الحياة والأمة فيجب تقديم الفردية على الجماعية. وتطبيق هذا على إطلاقه بالصورة الموجود عليها في الحضارة الغربية المعاصرة يعني تفكيك الروابط الجماعية التي تقوم عليها أمتنا، ومساعدة أعداء الأمة وأبرزهم إسرائيل على تدمير أمتنا، واستئصال وجودها الجماعي الذي يجب أن نسعى إلى تعزيزه، وإلى خلق الموازنة بين الجانبين الفردي والجماعي.

2- مبدأ المادية، ويعني اعتبار المادة هي الأصل في حياة الإنسان والكون، واعتبار أن الكلام عن الغيوب والروح والجنة والنار والوحي والله والملائكة والشياطين إلخ.. خرافات وأوهام تنحسر بانتشار العلم والمعرفة. وإذا أخذنا بهذا المبدأ فإن ذلك يعني تهديم بنيتنا الثقافية التي تحتل الآخرة فيها مساحة معادلة لمساحة الدنيا، ويزاوج الفرد فيها بين المادة والروح، وتتغلغل في كيان الفرد مفاهيم غيبية من مثل الإيمان بالله والملائكة والطهارة والشهادة، وسيؤدي الأخذ بهذا المبدأ إلى اضطراب وفوضى في المجالات النفسية والفكرية والاجتماعية والثقافية للفرد والجماعة.

3- مبدأ استهداف اللذة والمنفعة والمصلحة، واعتبارها الأصل في الفرد والمجتمع، ويجب تقديم هذه المبادئ على أية قيمة أو خلق إذا وقع التعارض بينهما. وإذا أعملنا هذا المبدأ فإن هذا سيطلق سعار الشهوات في الأمة، وسيطلق عنان المصالح الشخصية، والمنافع الذاتية وسيدمّر جانب التضحية والإيثار والبذل والعطاء والشهادة في بناء الأمة، ولن تترك الشهوات المنفلتة ولا المصالح الشخصية المنطلقة بقية من رمق أو قوة من أجل البناء الحضاري.

4- مبدأ نسبية الحقيقة، وذلك يعني أنه ليس هناك حكم مطلق أو قيمة ثابتة، ويعني أن كل شيء خاضع للتغيير في كل المجالات الأخلاقية والدينية والثقافية والسياسية. وإذا أخذنا بمبدأ نسبية الحقيقة فإن ذلك سيؤدي إلى زعزعة أحكام ثابتة في وجود أمتنا كأحكام العقيدة والعبادة والأسرة, لأنها تستند إلى نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، من مثل أن الله واحد، وأن الصلاة فرض، وأن الظهر أربع ركعات، وأن العلاقة بين الذكر والأنثى تكون من خلال الزواج. وستؤدي هذه الزعزعة إلى رفض تلك الأحكام وتفكيكها بشكل كامل.

ومن الأمثلة الواضحة على التفتيت الثقافي والسياسي من أميركا ما نراه في العراق، فهي قد احتلت العراق عام 2003 تحت شعاري  إزالة دكتاتورية صدام البغيضة، وإقامة ديمقراطية تكون واحة ومثالاً للديمقراطية في الشرق الأوسط، لكن النتيجة التي رأيناها تدمير العراق وتمزيقه إلى دويلات وطائفيات وعرقيات, فمجلس الحكم الأول الذي أقامه بريمر بعد أن دخل الأميركان العراق عام 2003 تكوّن على أساس المحاصّة الطائفية والعرقية، ثم كرّس الدستور الذي وضعته الإدارة الأميركية هذه المحاصّة الطائفية العرقية، ثم انتهى العراق كما هو واضح الآن إلى دولة كردية في الشمال، وهناك دولتان في طريقهما إلى الظهور: شيعية في الجنوب، وسنية في الوسط.

لذلك يجب على القيادات الفاعلة في هذه الثورات الناشئة التمييز بين الديمقراطية باعتبارها أدوات ووسائل لتحقيق العدل وإقرار الحريات, وانتخاب الحكام, وتداول السلطة, وبين الديمقراطية باعتبارها مبادئ ومضامين يمكن أن تؤدي إلى تفتيت المنظومة الثقافية لأمتنا، فعليها أن تأخذ بالديمقراطية بصورتها الأولى وتترك الثانية.

الثالثة: المؤسسات الدولية: أصبحت الولايات المتحدة الأميركية الدولة الأولى في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه، ولا شك أنها تمتلك أكبر نفوذ على المؤسسات الدولية من مثل مجلس الأمن والبنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة واليونسكو، وهي تستخدم هذه المؤسسات في فرض مخططاتها وقيمها على الآخرين من خلال استصدار قرارات أو عقوبات في حال عدم التجاوب، وقد اتضح ذلك في مواجهة تفكك منظومة الاتحاد السوفياتي بعد عام 1990، وفي مواجهة الصرب، وفي مواجهة صدام بين عامي 1990 و2003.

لذلك يجب على القيادات الفاعلة في هذه الثورات الناشئة أن تحل المشاكل التي تواجهها بشكل مستقل ومتعاون، وأن تبتعد عن إدخال أية مؤسسات دولية في حل هذه المشاكل.

ثانياً: إسرائيل

إن ما يخشاه المتابع لشؤون التغييرات في المنطقة أن لا تصب في صالح الأمة وأبناء المنطقة، بل يغيرها أعداء المنطقة لصالحهم، وأبرز هؤلاء الأعداء: إسرائيل.

ومن الأمثلة الواضحة على محاولة استفادة إسرائيل من التغييرات التي وقعت في المنطقة، تغلغل الموساد في المنطقة الكردية قبل غزو أميركا للعراق عام 2003 ومساعدته لبعض الأحزاب والشخصيات، ثم زيادة نفوذه وتغلغله في عموم العراق بعد سقوط نظام صدام، واغتياله لعشرات العلماء العراقيين وغيرهم من الشخصيات المعادية، ودفع إسرائيل أميركا إلى حل الجيش العراقي لأن هذا الجيش يعتبر الركيزة الأولى في تكوين الجبهة الشرقية المواجهة لإسرائيل، وحلّه يعتبر تقوية لإسرائيل.

ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل وضعت عددًا من الخطط منذ وقت بعيد من أجل تجزئة المنطقة وتقسيمها، لكي تبقى هي الفاعل الأكبر في سياسات المنطقة، وقد اتضح ذلك في تحريضها لكثير من الأقليات العرقية والدينية على التمرد والانفصال كما حصل مع الأكراد في العراق منذ الستينيات، وكما حدث مع المسيحيين في لبنان في الثمانينيات، وكما حدث الآن من تمزيق للسودان وإقامة دولة مسيحية في الجنوب وفصله عن الشمال بعد الاستفتاء الذي وقع مطلع عام 2011.

وقد تسربت عدة وثائق من الدوائر الإسرائيلية تؤكد نواياها في تجزئة المنطقة، أهمها:

  • 1- الوثيقة التي نشرها الصحفي الهندي كارانجي عام 1957 حول خطط إسرائيل في تقسيم المنطقة إلى دولة للدروز في جبل العرب، ودولة للعلويين في جبل العلويين، ودولة للمسيحيين في لبنان.
  • 2- الوثيقة التي نشرتها المجلة الإسرائيلية (اتجاهات) في فبراير/شباط 1982، وبينت الوثيقة أن إسرائيل أعدت خطة لتجزئة مصر إلى دولتين: إحداهما قبطية في الجنوب وأخرى سنية في الشمال، وأعدت خطة ثانية لتجزئة العراق وبلاد الشام، وثالثة لتجزئة المغرب العربي، ورابعة لتجزئة الخليج العربي.

ومما يؤكد ما ورد في الوثيقة السابقة دفع المحافظين الجدد -وهم لوبي صهيوني- أميركا إلى غزو العراق وتفتيته وتجزئته إلى عدة دول، ولا شك أن إسرائيل من أكبر المستفيدين من هذا الغزو المدمر.

لذلك نقول إن إزالة هؤلاء الطواغيت في مصر وتونس أمر ضروري، لأنهم أفسدوا العباد والبلاد، وعطلوا دورة الحياة الطبيعية، ولكن علينا أن نعرف أن هناك دوائر تتطلع إلى تجيير هذه الدورة من التغيير لصالحها، فعلينا أن لا نجعلها تستفيد منها في تمزيق الأمة وتجزئتها كما حدث في العراق، حيث أزاحت المستبد صدام وجزأت العراق إلى ثلاث دويلات، بل علينا أن نزيح الطغاة ونبقي البلد واحدًا، ونجعل الشعب يعود إلى التواصل مع ثقافته وإلى البناء الحضاري.

ثالثاً: إيران

لقد نصت إيران في دستورها على أنها تعتمد المذهب الشيعي، لذلك كانت دولة إيران في خدمة الطائفة الشيعية خلال تاريخها الماضي، فقد حاولت أن ترسخ طائفتها وتقويها في البلدان التي توجد فيها طائفة شيعية مثل لبنان واليمن والبحرين.

ففي لبنان أمدت إيران حزب الله بالسلاح والمال فأصبح حزب الله قوة رئيسة وأصبحت الطائفة الشيعية هي الطائفة الأولى في لبنان بعد أن كانت مع الطائفة السنية تحت عباءة واحدة، وهي تحاول أن تنشر مذهبها في البلدان التي لا توجد فيها طائفة شيعية كمصر والمغرب العربي وهي تحاول أن تستفيد من الأحداث والتغييرات وتجيّرها لصالح طائفتها، ويتجلى ذلك في العراق.

فقد ثبت أنها نسقت مع القيادة الأميركية التي مزقت العراق، وتعاونت بعض الفصائل المرتبطة بها مع القوات الأميركية بشكل كامل أثناء الغزو الأميركي وبعده، ودعمت إيران بعض الفصائل الشيعية بالمال والسلاح بعد الاحتلال الأميركي للعراق من أجل السيطرة على جنوب العراق ووسطه ونجحت في ذلك.

وقد حاولت بعض القيادات السنية أن تثني إيران عن سلوكها الطائفي السابق، وأبرز من فعل ذلك الشيخ يوسف القرضاوي عندما دعاها إلى التفاهم على أن لا تنشر إيران مذهبها الشيعي في بلدان سنية، على أن لا ينشر أهل السنة مذهبهم في بلدان شيعية، فرفضت إيران ذلك.

لذلك من المتوقع أن تحاول إيران أن تستفيد من ثورات الأمة والتغيرات الجديدة في مصر والمغرب العربي واليمن والبحرين, لتحقيق مواقع متقدمة لمذهبها الطائفي، ويمكن أن ينشئ هذا الفعل صراعًا وتوترات تعرقل مسيرة الثورات، لذلك على قيادات الثورات أن تعالج مثل هذه التوترات معالجة حكيمة، وتفوّت على إيران إمكانية بلبلة مسيرتها وإمكانية عرقلتها عن تحقيق أهدافها, وتعرقلها بالتالي عن تحقيق أهدافها.

الخلاصة: إن إزاحة الثورات لطواغيت الاستبداد والإفساد عن صدر الأمة أمر عظيم سيفتح أفق الخير للعباد والبلاد، لكن علينا أن نتنبه ونعي أن هناك أعداء متربصين بهذه الثورات يريدون أن يجيروها لصالح أهدافهم، فعلينا أن لا نسمح لهم بذلك، بل علينا أن نجعلها في صالح الأمة وحدها.

المقال كما ظهر في الجزيرة المخاطر التي تتربص بثورات الأمة

اترك رد